ليست هذه هي المرة الأولى التي يجترح فيها حزب الله مثل هذه
الأعمال البطولية، فقد اجبر العدو الصهيوني على الانسحاب من معظم أراضي
جنوب لبنان في ،2000 وكذلك فرض على هذا العدو تبادل الأسرى في الماضي
القريب حيث كسر”هيبة” “إسرائيل” وأذاقها طعم المر والهزيمة، وتعود هذه
الانتصارات إلى أن حزب الله درس واستوعب لغة العدو وكيفية التعامل معه،
أضف إلى ذلك النفس الطويل الذي يتحلى به الحزب وقائده، حيث أسقطت
المعركة الراهنة أسطورة احتكار “إسرائيل” للتفوق العسكري التقليدي،
وقدرتها على تحقيق أهدافها بوقت سريع، ومثلت المعركة الحالية أطول
معركة خاضها طرف عربي بمقاومة شعبية ضد العدو الصهيوني دون أن تحسم
لصالح العدو في أيام معدودة، فبعد خمسة أسابيع من القصف المدفعي
والصاروخي المركز، وطلعات جوية فاق عددها طلعات العدو في حربي 1967 و
،1973 واستخدام أكثر التقنيات العسكرية تطورا، فشلت قوات العدو في
تحقيق أهدافها العسكرية وأهمها، تدمير الهيكل التنظيمي لقوات المقاومة
ومقار قيادتها، واختراق ارضي استراتيجي والسيطرة على مواقع داخل العمق
اللبناني باستثناء سيطرة جزئية ومؤقتة على بعض مناطق الشريط الحدودي،
رغم أن القوات المحتلة لم تنج من الضربات الخلفية لرجال المقاومة.
من الملاحظ أيضاً أنه بعد أكثر من شهر من هجمات عسكرية عدوانية
شرسة، ومقاومة وطنية مسلحة باسلة، بات جلياً أن القيادة العسكرية
“الإسرائيلية” واجهت حالة مقاومة شعبية لم تألفها في حروبها السابقة،
بعدما فشلت في تسجيل أي انجاز عسكري يُعتد به على قوات مقاومة ذات
قدرات تسليحية متوسطة لا يمكن مقارنتها بالقدرات التسليحية المتفوقة
كما ونوعا للعدو الصهيوني.
غير أن ما يؤسف له هذا الصمت العربي الذي برز بنوعين الأول الصمت
الرسمي، والثاني صمت الشعب العربي، وهذا تحقق بجهد ومثابرة الأنظمة
وبعضها وصل إلى دفة السلطة بشعارات أغوت وأوهمت جماهيرنا على أنّ
أصحابها قادة ثوريّون جاؤوا لخدمة قضاياهم الوطنية ولتحرير فلسطين.
أما التجمّعات ومنظمات المجتمع المدني والاتحادات العربيّة فلا يزال
أغلبها يدور في فلك النظام الرسمي العربي، فلا يخرج منها سوى مواقف
(أضعف الإيمان) ولا يتجاوز رد فعلها دائرة الاجتماعات والندوات
والتصريحات الرنانة والبيانات وهي بلا طائل، وبلا فعل يحقق شيئاً على
الأرض.
إن افتعال الأزمة في لبنان، وشن العدوان “الإسرائيلي” الهمجي عليه،
خطط في واشنطن ونفذ من قبل قوات الاحتلال الصهيونية، التي وُظفت كأداة
لصناع القرار في واشنطن، حيث إن اللعبة الأمريكية انكشفت للعيان
فواشنطن بيتت النية لشن هذه الحرب بالاتفاق المسبق مع الصهاينة بهدف
تخفيف الضغط الممارس عليها في العراق، وصرف الأنظار عن الإخفاقات
الأمريكية في بلاد الرافدين، خصوصاً أن الرأي العام الأمريكي بدأ يسأل
عن جدوى احتلال العراق وبقاء القوات الأمريكية فيه وتعرض أفرادها إلى
القتل هناك، حيث إنه يمكننا من هذا المنطلق أن نتفهم هذا الرد العدواني
الذي يتمثل بتدمير لبنان وتشريد مئات الآلاف من شعبه، إذا أخذنا بعين
الاعتبار تقاطع المصالح الأمريكية - “الإسرائيلية”، أي قيام جيش
الاحتلال بعدوانه السافر على لبنان لمساعدة الأمريكيين في العراق
وإنهاء وضع الساحة اللبنانية كساحة ممانعة، والضوء الأخضر الذي حصلت
عليه تل أبيب من واشنطن لم يأت من فراغ ولا يدور في فراغ، فإدارة بوش
تريد أن تخفف من سهام النقد اللاذعة ضد سياساتها في العراق، و”إسرائيل”
ترغب في الثأر من حزب الله الذي كنسها من معظم الجنوب اللبناني المحتل
في أيار (مايو) من العام ،2000 ومعاقبة الدولة اللبنانية، لأنها الدولة
العربية الوحيدة التي اضطر فيها الجيش “الإسرائيلي” للانسحاب، دون أن
توقع حكومتها على صكوك استسلام ومعاهدات صلح، وعلى ذلك نستشف أن
العدوان الصهيوني على لبنان ليس كما تحاول الدعاية الصهيونية الإيحاء
بأنه حرص على سلامة جنودها ومواطنيها للدرجة التي تبدو معها مستعدة
للدخول في حرب كبيرة في سبيل إنقاذ الجنديين الأسيرين، بل إن الهدف هو
تحريك الموقف الدولي باتجاه تفعيل القرار الدولي 1559 ونزع سلاح حزب
الله واستلام الحدود اللبنانية مع القوات الصهيونية من قبل الجيش
اللبناني، ويضاف إلى ذلك محاولة تلميع صورة بوش عند الناخب الأمريكي
واللوبي الصهيوني في أمريكا من خلال وقوف الولايات المتحدة مع الكيان
الغاصب ضد العرب خاصة أنها مُقدمِة على الانتخابات في شهر نوفمبر/
تشرين الثاني القادم، وخلق مناخ يصبح من الممكن فيه جذب انتباه الرأي
العام العالمي إلى أحداث لبنان من اجل تمرير ما يمكن تمريره على الساحة
العراقية خاصة وصرف الأنظار عن الصعوبات الجدية التي تواجهها القوات
الأمريكية هناك أمام ضراوة الضربات التي تواجهها.
ولا يمكن تجاهل حقيقة أن احد أهداف هذا العدوان التحريض على إيران،
عبر التركيز على دورها في لبنان، بغية خلق مبررات إضافية لتوجيه ضربة
إليها وقد بانت هذه المعالم من خلال تصريح الصهاينة أن الصواريخ التي
قصفت البارجة التي أغرقتها المقاومة كانت إيرانية الصنع وان هناك حوالي
100 جندي إيراني يشرفون على إطلاق هذه الصواريخ. ولا يستبعد أن يكون كل
ذلك مقدمة لدور “إسرائيلي” محتمل في قصف المفاعلات النووية الإيرانية
وتدميرها بغطاء أمريكي في وقت لاحق.
ونسبة لمستقبل المنطقة فإن المؤكد أن المقاومات الثلاث، في العراق
ولبنان وفلسطين هي التي ستلعب الدور الأكبر في تحديد هوية المنطقة في
المرحلة المقبلة، فالأولى أفشلت مشروع الاحتلال الأمريكي، والثانية
أكدت نهاية زمن الحروب “الإسرائيلية” السهلة، والثالثة فضحت زيف
التسويات المنقوصة والمفروضة وفق الشروط “الإسرائيلية”، لأن صمود الشعب
اللبناني، غيّر قواعد اللعبة في المنطقة، وقد كرّس وقف إطلاق النار حسب
قرار مجلس الأمن الأخير1701 واقعاً بدت فيه “إسرائيل” ابعد ما تكون عن
تحقيق أهدافها المعلنة من وراء الحرب، فلا الجنديان الأسيران عادا إلى
بلدهما، والاهم من هذا أنه رغم الدمار الكبير الذي ألحقته آلة الحرب
والمعتدون بلبنان، وحجم التضحيات الكبيرة التي قدمها اللبنانيون، فإن
البنية العسكرية والتنظيمية لحزب الله ظلت متماسكة، وكانت صواريخ
المقاومة تنهمر حتى اللحظات الأخيرة السابقة لوقف إطلاق النار على
المدن والبلدات “الإسرائيلية”.
إن وضعاً جديداً نشأ في المنطقة خلاصته انه لا يمكن تجاهل إرادة
المقاومة لدى الشعوب العربية، خاصة لدى الشعبين اللبناني والفلسطيني،
وان هذه الإرادة كفيلة بمنع الاندفاعة الأمريكية الصهيونية في اتجاه
إعادة تشكيل الوضع في المنطقة العربية بما يخدم مصالح أمريكا
و”إسرائيل”.
إن تجربة الحرب الأخيرة أظهرت أن هناك طاقات كفاحية جبارة لدى
شعوبنا يمكن لها أن تشكل سداً بوجه المشاريع الرامية إلى إخضاع المنطقة
وشعوبها للعبودية الأمريكية الصهيونية.
* النائب الأول لرئيس مجلس النواب - البحرين |