عين الذاكرة

ابراهيم سبتي *

 الدقيقة العاشرة بعد السابعة مساء

يتنازع الكتاب محروقا .. لكنه لم يمت

التاريخ : 30/10/2003 الموافق 4/ رمضان / 1424 هـ

الوقت : السابعة وعشر دقائق مساء

اليوم : الخميس

المكان : شارع المتنبي / بغداد

 

 الهدوء، تطيح به بعض الاصوات القريبة والبعيدة . سلكت طريقا فرعيا من شارع الرشيد، هو شارع المتنبي قادما من ساحة الميدان بعد ان ودعت صديقي الذي اخرني حتى هذا الوقت، كان يسألني على الاخوة والاهل في الناصرية وكان يعرب لي عن امنيته بزيارة مدينته قريبا .

كنت واثقا بأني ساكون وحدي في هذا الوقت ، بغداد هاجعة ، والناس تلتحف البيوت في هذا المساء التشريني. بعد ان مضى على مدفع الافطار اكثر من ساعة . الظلمة بدأت تزحف والخوف من الدقائق القادمة امر اعتيادي .

بغداد كبيرة، اكبر من مدينتي عشر مرات او يزيد، لكنه امر غريب في هذه اللحظة ، لم اتعود رؤية الشوارع خالية . لكني لم ارها كذلك.

فثمة اشياء غريبة تحركها هذه الشوارع داخلي . ربما لاني احتفظ بذكريات مر عليها عقد او اكثر، كنت انزل من وحدتي في منطقة البلديات الى مقهى حسن عجمي يوم الجمعة فقط، لانهم لا يسمحون لي بالنزول لانني / محافظات /، التقي بأخي كمال والاصدقاء .

عند حلول المساء اغادرهم مسرورا لانني نسيت الجيش بضع ساعات .

هذا عالم بغداد بالنسبة لي، وكأني اتذكر قول ريلكه:

العالم كبير، ولكنه في داخلنا اعمق من البحر .

شارع المتنبي مهجور تماما، الكهرباء مقطوعة. لم ار أي مصباح مضاء .

احد المطاعم علق لافتة بيضاء كتب عليها:

بأمر من الجهات المختصة، المطعم مفتوح طيلة ايام شهر رمضان المبارك .

كان علي ان اقطع شارع المتنبي مرورا بسوق السراي واعبر لادخل شارع النهر خشية المرور بالرشيد في هذا الوقت، بعدها اقطع شارع حافظ القاضي مسرعا حتى ساحة النصر عبر ساحة التحرير للوصول الى مكان اقامتي في فندق برج الحياة .

ثمة رجال ثلاث يجلسون عند احد الابواب المفتوحة ..

نظرت اليهم فزادني شجاعة المضي في طريقي ، انا الان لست وحدي . يتوسط الرجال الثلاثة ، بدين يلبس عوينات ، كان الباب المفتوح لمبنى يضم دورا للطباعة، عرفت ذلك من اللوحات المعلقة على الجدران .

وفي وسط شارع المتنبي علقت لافتة كبيرة عبرت جانبي الشارع مشدودة بحبال على شرفات البنايتين المتقابلتين مكتوب فيها:

ندعوكم للمشاركة باكبر مسيرة شعبية مناهضة للارهاب والتي سيشارك فيها جميع الاحزاب والقوى السياسية والمنظمات والاتحادات المهنية والنقابية التي تدعو الى نبذ العنف والتصدي له ومحاربته. لكنني لم اجد هامشا للجهة المسؤولة عن اللافتة .

الشارع مليء بمحال بيع الكتب والقرطاسية .

فالمتنبي في بغداد مشهور بكتبه النادرة والقيمة والقديمة والحديثة وكل ما يحتاج له الدارس والباحث والمفكر والمثقف. نظرت الى البدين وحسدته على جلسته وهو يرتشف الشاي متلذذا. نظرت الى البنايات المتوزعة على جانبي المتنبي، ورحت اقتنص بعض اسماء المحال من اللوحات الكبيرة المعلقة . وخلت نفسي انني امر بصعوبة وسط زحام الجمعة / غدا / في هذا الشارع. انهم يعرضون الكتب كحبات الرز، ليس لها عدد، ليس لها نظام . كل بائع يفترش ما تيسر له من الشارع وتتعالى الاصوات كتابين بألف.. ثلاثة بألف.. الواحد بربع ..

الجمعة غدا، ربما لم يحالفني القدر ان احضر الى هن .. اسير متلفتا واحسب ان الظلمة ستطاردني وسط شحوب الشارع . التفت، الرجال الثلاثة اختفوا .

بغداد تتقاذفها السن المذيعين .

الفضائيات صارت لهم بغداد مادة العمر  لم اسمع في الاخبار منذ سبعة اشهر غير الانفجارات والمفخخات والعبوات والقتل والترويع .

رباه ماتبقى الان من بغداد ! الساعة السابعة وعشر دقائق، خفت التأخير وانقطاع السبل، بعد اقل من ساعتين سيفرض حظر التجول اليومي عندها اكون قد ادركت نهايتي، فهم يطلقون النار بعد التاسعة على أي جسم متحرك ! دلفت الى سوق السراي الموحش لا تتناهى الى سمعي سوى صفارات سيارات الشرطة التي تجوب شارع الرشيد مسرعة كل ربع ساعة تقريبا .

فجأة احسست ان المحال المغلقة تريد ان تتقيأ خزينها من هول الدوي المرعب .. كان دويا قد طرحني ارضا ..

ركضت باتجاه المتنبي اريد الرشيد، لكني رأيت نارا تتصاعد من البناية التي كان الرجال الثلاثة يجلسون على بابها .

هرعت لاهرب، سمعت صرخات الناس وولولة النسوة الباكيات. الساعة الان السابعة والثلث، سيارات الاطفاء حضرت بصفيرها المدوي. الحريق التهم كل البناية . هرول الناس الذين خرجوا من جحورهم ، سألت واحدا: قال: هذه كتب احترقت. انهم يطبعون الكتب ويبيعونها. تجمهر الناس المفزوعين. سمعت بأن لاخسائر بالارواح .

لمحت دبابة تسد الشارع المؤدي الى مكان الحادث . بعد عشر دقائق على حضور سيارات الاطفاء دوى انفجار اخر في المكان نفسه . لكنه هذه المرة لم يرفع النار بل كان صوتا مدويا مخيفا. كان الحائط الذي اتكأت عليه متفرجا، ينثال علي بذكريات الكتب المحترقة .

بغداد ليس غريبا ان تحترق الكتب فيها . الكتب مادة سريعة الاشتعال، ويبدو انها اكثر المواد خطورة . يا لهذا الكتاب من مفعول قوي وسريع على العقول، كل يحسب ان المفكرين والمثقفين اخطر من المعارضيين السياسيين والعسكريين . في عام 656 / وحسب ما يخبرنا ماضينا التليد / نزل هولاكو الى بغداد وحاصرها .. وبين كر وفر، استبيحت بغداد والكتب وصارت وقودا للنار وسدودا في دجلة لعبور الجيوش التترية التي لم تترك جسدا بغداديا الا وطعنته بسيوفها. وقبلها عرفت بغداد احداثا اكثر ايلاما . فقد احترق جزء كبير منها في عام 251 هـ على يد اجناد المستعين وخصمه المعتز بن المتوكل .

وفي سنة 284 هـ اصاب المدينة القحط فلم ينزل المطر وغارت المياه في الانهار والعيون والابار .

وفي رجب من سنة 289 هـ زلزلت بغداد.

و في عام 300 للهجرة كثرث الامراض والعلل ببغداد في الناس. وذكر ان الكلاب والذئاب كلبت فيها بالبادية، فكانت تطلب الناس والدواب والبهائم، فما عضت انسانا اهلكته . . وفي سنة 718 حدث غلاء فظيع في بغداد اضطر معه الناس الى اكل الجيف وباع الفقراء اولادهم .

الجمعة 31/ 10/ 2003 .

المكان صالة الفندق .

شاهدت احدى الفضائيات الشقيقة وهي تنقل الخبر:

قالت مصادر الشرطة ان شخصا قتل وجرح ثمانية اخرون في حريق نشب في مبنيين مساء امس الخميس في وسط بغداد اثر انفجار قوي .

وفيما كان رجال الاطفاء يعملون على اخماد الحريق  هز انفجار آخر المنطقة .

وقال احد ضباط الشرطة من موقع الحادث حيث ما زال الحريق مشتعلا : ان شخصا قتل بينما اصيب ثمانية بجروح .

واغلقت دبابة عسكرية اميركية المدخل الى موقع الحادث حيث ما زال رجال الاطفاء يكافحون الحريق في المبنيين في منطقة الرشيد ـ شارع المتنبي

وسط بغداد .

واضاف احد سكنة المنطقة ان انفجارا هائلا وقع اهتزت من جرائه البناية كما لو انها كانت ستنهار .

واوضح رجل من اهالي المنطقة بان البنايتين فيهما دور طباعة. وكانت النيران تتصاعد الى عنان السماء بفعل الكتب المحترقة .

اطرقت رأسي وتناهى الي من بعيد صوت السياب:

نرى العراق .. يسأل الصغار فيه

" ما القمح ؟ ما الثمر؟"

ما الماء ؟ ما المهود ؟ ما الإله ؟ ما البشر؟

فكلُّ ما نراه

دمٌ ينزُّ أو حبالٌ فيه أو حفر ...!

تصفحت / بصرياثا / غائرا في عالم محمد خضير

وتفحصت كتابي الذي لم يحترق . 

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء  22/اب /2006 -27/رجب/1427