كانت القدرة على الحَدس تعتبر منذ القِدم ألف باء الموهبة والمَلكات
العقلية والعبقرية المعطاة من (( الله )) . والحدس هو القدرة على
التلقي المباشر ، وهو قدرة ذهنية ، أي الرؤية بـ "عين" العقل .
والإدراك حدسياً يعني الإحساس سلفاً ، إدراك اللغز ، التبصّر
والكَشف . فنرى المرء يقول ؛ لقد لمعت في ذهني أو خطرت في بالي فكرة .
ويُربط بالحدس ، عادة ، تصوّر عن التغلّغل إلى الجوهر وعن البساطة
والتناسق والرشاقة والحس الجمالي .
هكذا تنبأ هكّل نظرياً بوجود "إنسان جاوه" – قبل أن يكتشفه ديوبو في
جزيرة جاوه الإندونيسية بسنوات طويلة – وخَلص العالِم الانثروبولوجي
بلاك ، استناداً إلى ضرس واحد عثر عليه في تشاوكاوديان (قرب بكين) ،
إلى استنتاجه عن انتماءه إلى جده الأقدم "إنسان بكين" .
ثمة تصوّر عن الحدس وكأنه روح "سحرية" تثير الإلهام والتألق
الإبداعي الذي يهب الإحساس بالجمال والشعور بالغبطة . فعلى سبيل المثال
، كان المفكر الألماني نيتشه يصف الحدس بأنه حالة إلهام . بيد أن للحدس
أساساً واقعياً دنيوياً تتوسطه في التحصيل الأخير تجربة الماضي .
لذا فإن الصفة المفاجئة للحدس صفة موهومة تخفي وراءها نشاطاً خفياً
مارسه الوعي . فحلّ أية معضلة يسبقه ، عمل طويل ودءوب ، وادّخار وتحليل
المعلومات ، أي ما يسمى بـ "فترة الحضانة" . ولكن يخيّل إلى الإنسان أن
الحل جاءه بشكل مباغت ، وأنه ضرب من "الاستبصار" ، "قفزة في التفكير" ،
"نفاذ بصيرة" .
وقد شخّص سمة الحدس هذه العالم الرياضي بوانكاريه حين قال : (( إن
ما يذهل هنا بالدرجة الأولى هو ومضات استبصار مفاجئ يعتبر معالم عمل لا
واع طويل الأجل تم بذله سابقاً (...) وهو – أي الحدس – ممكن ، وعلى أية
حال فهو أمر لا يكون مثمراً إلاّ حين تسبقه من جهة ، وتليه من جهة أخرى
، فترة عمل واع )) .
بيد أن الكثير من العلماء كانوا على يقين من أن حل المسألة أو
الفكرة قد خطرا لهم بشكل مفاجئ . فقد كان العالِم البريطاني تشارلز
دارون ، مثلاً ، يقول إنه حين كان يطالع كتاب مالثوس (( نظرية السكان
)) لمعت في ذهنه فكرة معالجة مسألة الصراع على البقاء في الطبيعة .
ومما لا شك فيه أن هبة الحدس ترتهن في الكثير بقدرات الشخصية
الفردية وتمكنها من التركيب والتوليف والتجريد واتخاذ القرارات وما إلى
ذلك . إن دور الكشف في النشاط الإبداعي يلعبه في بعض الأحيان أيضاً
الحلم ، حيث تتجلّى قدرات الشخصية الفردية على صعيد اللاوعي . وفي
تاريخ العلم والفن ثمة عدد غفير من حالات الاكتشاف والاختراع في المنام
. فالشخصية "المغمورة" في حل معضلة ما "تقلّب" ذهنياً عدداً كبيراً من
بدائل الحلول . وهذه العمليات تمس أعمق ميادين النفس دون أن يزول
توترها إبان النوم أيضاً . فالنوم الذي يقطع نشاط الإنسان الذهني لا
يوقف هذا النشاط كلياً . وذلك أن العمل يستولي على الفرد إلى درجة
تجعله يواصله حتى في أثناء الراحة . لهذا السبب بالذات يستطيع الإنسان
أن "يرى" في الحلم وأن يعثر على الحل المنشود .
عندما سئل عالم الكيمياء ديمتري مندلييف الذي رأى في الحلم مبدأ
تكوين جدول العناصر الكيميائية كيف تسنّى له اكتشافه ، قال : (( لقد
كنت مشغولاً به طوال ثلاثين سنة )) .
الإنسان ظاهرة فريدة في عالم الطبيعة الحيّة . وعالمه الروحي ،
"العالم الأصغر" ، لا ينضب إذ يندمج فيه في كل واحد العقل والمشاعر ،
الاحتياجات والمثُل العليا ، الخلقي والعاطفي .
والإنسان ليس بالخبز وحده يحيا . بل تبرز كشكل خاص من النشاط
"الحياة الروحية" للفرد التي ترتبط باختياره للقيم والمثل الحياتية .
وتنعكس في هذا النشاط احتياجات الفرد واهتماماته ورغباته ، وتتفتّح
قدراته وتتجلّى صفاته المعنوية وأنشطته الاجتماعية .
*باحث وكاتب كويتي
ayemh@yahoo.com |