في مقالات سابقة كنا قد تحدثنا عن الهم الانساني في شعر الشهيد
السعيد الامام السيد حسن الشيرازي رحمه الله وتطرقنا ايضا الى رؤيته
للأم وفلسفتها في الحياة ومدى تأثير افكارها وسلوكها في البناء
الاسلامي والانساني والاخلاقي لشاعرنا الشهيد وذلك من خلال قراءة عدد
من نماذجه الشعرية .
وفي هذا المقال سوف نقرأ نموذجا شعريا صاغه الشاعر بلغة خاشعة –
اذا جاز القول- وتناول فيها قدرة الجليل عز وجل على ادراك وتكوين كل
شيء وعلاقة الشاعر الشهيد بخالقه سبحانه وقد حملت هذه القصيدة عنوان
(أراك)، وما يلفت النظر في بناء هذا النموذج الشعري انه ينتمي الى حقل
السهل الممتنع في كتابة الادب، حيث المعنى الواضح واللغة المستقاة من
مفردات قريبة الى القارئ المؤمن الخاشع لما تتمتع به من نفحات ايمانية
راقية.
ويستهل شاعرنا قصيدته هذه بصيغة الاستغراب والتساؤل في الوقت نفسه
وهو يناجي ربه قائلا:
( أرى... ولا أراك!
وكيف لا أراك ؟!
وهل أرى سواك ؟!)
ويستدرك شاعرنا تساؤلاته بإيراد الدلائل الشافية التي يتلمس فيها
الوجود الالهي حقيقة لا تقبل الشك ابدا فيقول:
(أراك في مظلة السماء
في صبوة الضياء
في رعشة النجوم
في لهثة الغيوم
في غفوة الكروم)
ويتواصل شاعرنا الشهيد في تقديم الدلائل تلو الاخرى وكأنه يدفع
للآخرين بموجات من ضوء الحقائق الثابتة، تلك الحقائق التي يتعامل معها
العقل البشري منذ أمد بعيد ولكن ليس بشكل مباشر، انها الحقائق المدركة
وليست الملموسة التي تدلل على عظمة الخالق، ان الشاعر يورد الكثير من
هذه العلامات والاشارات التي لا تحصى، ولكن ليس بطريقة التنظير العلمي
او التفسير والتحليل المنطقي، وانما يوردها بوساطة الشعر، نعم بوسائل
الشعر الراقي ولغة الشعر الشفافة التي تبتعد عن الجفاف وتجافي (المنطق)
الذي لا يقبل التأويل والتعدد، انها لغة الشعر الراقية التي وظفها
الشاعر لكي يصل الى بغيته بأيسر الطرق وأقربها، وليضع بين يدي القارئ
نفحاته الايمانية الشعرية التي تشبه الى حد كبير تدفق امواج البحر
وتواصلها وتتاليها حتى تصل الى شاطئ الوضوح والايمان، فنجد شاعرنا
يقول:
( أراك في طفولة الموج
وفي أمومة البحار
وفي التأمل العبوس للقفار)
لاحظ هنا جملة – أمومة البحار- فالبحر لم يعد تشكيلا ماديا مجسدا في
مخيلة القارئ بل تحول من خلال الشعر الى كائن بشري حي، وأي كائن عظيم،
انه الأم، وهي أروع مخلوق قدمه الخالق للموجودات الحية بأسرها، ان لغة
الشعر هنا تتصرف كما يحلو لها بعيدا عن المنطق المحسوب ولكن من جهة
اخرى تفعل فعلها المطلوب وأكثر عندما تستفز مخيلة القارئ وتتجاوز على
السائد لديه وهنا تكمن – ضربة- النص الشعري كما يرى النقاد، فشاعرنا
هنا طوًّع اللغة لبناء النص الشعري ليس على وفق المتوقع والسائد
والمعروف بل وظفها مثلما يجب ان يكون عليه الشاعر صادما ومستفزا
للذاكرة وللمخيلة في وقت واحد.
ثم يقترب الشاعر من الحقائق قليلا في تناوب واضح بين الابتعاد عن
السائد والاقتراب منه في حدود يستوجبها نجاح الشعر، حيث نقرأ في هذه
القصيدة مناجاة الشاعر لخالقه:
( كم مرة حاولت ان أهرب من فناك!..
كم مرة حاولت ان انساك!..
كم مرة رفضت أن أخشاك!..
وفجأة تهزني يداك
تقول لي: قف.. قف..
وعد.. وعد ..
الى هداكْ
وفجأة أحس انني اراك
في كل شيء انني اراك
وقبل ان ارى سواك)
هكذا يقترب الشعر من حافة الحقيقة وهكذا يوظفه الشاعر لكي يوضح
للنفوس القلقة علاقة المخلوق بخالقه ورؤيته لما يدور حول ورحلته
الدائمة والدائبة للبحث عن الحقائق، ان قلق الانسان خلق معه وفي ذاته
ايضا ولكن علامات الايمان انتشرت حوله ايضا وما عليه سوى التدقيق
والبحث لكي يصل الى ضالته، والشعر هنا احد الوسائل التي يوظفها الشهيد
الشاعر السيد حسن الشيرازي لكي يصل الى هذه العلامات والحقائق ويضعها
في الوقت نفسه بين أيدي القارئ ليتوصلوا الى نتائج كان رحمه الله قد
وصل اليها واكتشفها بنفسه.
لقد مثلت هذه القصيدة نفحات الايمان بأجمل صورها من خلال تدفق
التساؤلات والاستغراب في حالة من المد والجزر تواصلت على مدى مساحة هذا
النص الشعري الذي نجح في الامساك بقارئه حتى النهاية. |