لا يختلف اثنان على مكانة الام في نفوس وقلوب نسلها البار في الدار
الاولى، فالبنات والبنون الصالحون ممن لهم سطوة في حقول الابداع كافة
ليس لهم سوى هم تخليد الام في أعماهم الابداعية التي تنتسب لهذا الحقل
او ذاك من مجالات الابداع المتنوعة، ويأتي هذا التوجه لاسباب عديدة
منها رد الجميل اولا وكذلك مدى التأثير الذي تتركه الام في نفوس وعقول
ابنائها وبناتها سواء في الاخلاق او السلوك او الايمان او زرع القيم
والمبادئ السامية فيهم لتصبح فنارهم العالي الذي يهتدون به وهم يسيرون
في دروب الحياة الطويلة والشاقة والشائكة في آن واحد.
وفي قصيدة الأم للشاعر الشهيد السيد حسن الشيرازي ثمة فلسفة خاصة
تحولت الى فكر ومن ثم الى مسار عمل تركتها الام في نفس الشاعر وطبعتها
في أفكاره اولا وفي سلوكه في الحياة العملية ثانيا، وكما هو معروف في
مثل هذه القصائد التي غالبا ما تنتمي الى الرثاء الشعري، سيتذكر الشاعر
حسنات الام ودورها المتميز والكبير في رعايته وفي زرع بذور الخير
والوفاء في نفسه وسلوكه، وهذا امر متعارف عليه في أغلب القصائد التي
نرثي بها أمهاتنا وآباءنا، ومثل هذا التوجه لا يغيب عن هذه القصيدة كما
نقرأ في هذه الابيات الشعرية من قصيدة الام موضوع مقالنا هذا:
( كنت عزائي عن أبي فأصبت _ بعدك_ في عزائي )
( وفقدت أصدق دمعة وأبرّ حـــب في العــطاء)
( وأرق نسمة بسـمة تهمي النجوم على فضـائي )
لكن شاعرنا ينظر الى الام من زاوية أخرى قد لا يلتقي بها مع مبدعين
آخرين كتبوا عن الام، وينتشل هذا التفرد في الرؤية الى الام من صميم
العلاقة المعاشة التي ربطته بامه خلال رحلته الحياتية الطويلة معها،
بمعنى آخر ان الشاعر استلهم افكار وسلوك الام على وفق فلسفة خاصة به
واستنتج هذه الفلسفة في النظرة الى الحياة من فلسفة الام نفسها في
التعامل مع عناصر الحياة الحية والجامدة في آن، أي كيف تصرفت الام مع
الكائن الحي انسان وحيوان ونبات، وكيف تصرفت الام في شؤون الحياة
الاخرى التي لا ترتبط بالانسان او الكائن الحي مباشرة، مثلا كيف تعاملت
مع مسألة الصبر على الخطوب الكبيرة والقاسية، وكيف تعاملت مع الاضداد
او مشكلات الحياة بصورة عامة، وعن فلسفة الام نقرأ لشاعرنا في هذه
القصيدة الابيات التالية:
( بالتضحيات بنيت فلــ سفة الحياة على الفداء )
( وفرضت نفسك حــجة تجتاح فلسفة الــعداء )
( ليس البقاء لأفـــضل ليس التنازع للبقــاء )
(ان التنازع للفــــداء وليس من اجل البـقاء )
هكذا ينظر الشاعر الشهيد الى فلسفة امه التي تعاملت بها ومن خلالها
مع الحياة، ومن هذه الفلسفة التي تحكمت بسلوك الام استلهم الشاعر الطفل
/والشاب / والكهل /والشيخ في نهاية رحلة الحياة، استلهم طبيعة التعامل
مع الحياة المتحركة والواقفة اذا جاز القول، ولعل صلابة الشاعر زرعت في
اول مشوار حياته القدرة على مقارعة الشدائد والظلم وكل ما يتعلق بالشر
جملة وتفصيلا، ثم هناك ترفّع مبارك وجميل على الصغائر، يعلو كثيرا فوق
منازعات البقاء، او ما تدعو اليه نظرية البقاء للاصلح، حيث يرى المفكر
الامريكي المعاصر نعومي تشومسكي فشل نظرية البقاء للاصلح او البقاء
للاذكياء فقط ويستشهد بالخنافس وبانواع اخرى من الحشرات بانها حافظت
على نفسها ونسلها ايضا حقب طويلة من الزمن في الوقت الذي يقتل فيه
الانسان أخاه الانسان وهو (في الطريق الى الانقراض !!!)، وهنا يرى
شاعرنا ان فلسفة الام تترفع كثيرا على الصراع من اجل البقاء، بل الصراع
لديها هو مسخّر من اجل الفداء، وهكذا نقرأ في هذه القصيدة مسارا رثائيا
مطعما بالفكر والمبادئ السامية التي تدعو الى نضال الانسان من اجل ان
يفتدي بنفسه الحق والخير والصلاح ويترفع عن الصغائر أبدا. حيث يختتم
الشاعر قصيدته هذه بالبيتين التاليين:
(أم لمبدأ أمــــة وأب لمبتدأ الإبـاء)
( ومبادئ.. كالراسيا تتشدّ ذرات الهباء ). |