تحدث نقاد الشعر العربي كثيرا عن أغراض الشعر وتوجهاته ومساراته
المتعددة والمتنوعة التي تعالج شؤون وشجون الانسان والحياة على حد
سواء، وظهرت نظريات ادبية في حقب متتالية عالجت الشكل الشعري والمضمون
وخاضت في حلبة الشعر حتى أشبعته دراسات وقراءات تكاد لا تحصى.
ومن بين مضامين الشعر ثمة التوجه الانساني وما يتعلق به سواء في
مشاعر الانسان ونواياه وافعاله ايضا، ويدخل هذا النوع من الشعر في حقل
الادب الملتزم الذي ينوء برسالة انسانية تربوية دينية اخلاقية تقدم
للانسان حلولا لمعاناته في الحياة وتفتح أمامه سبل الولوج الى فضاءات
الخير والمحبة والتسامح والايمان والى كل ما ينتسب لخير البشرية
وتطورها واستقرارها، فالانسان كما هو متفق علية اللبنة الاولى للمجتمع
والمجتمع الاسلامي او العربي او غيرهما هو جزء من المجتمع الانساني
عامة وصلاح المجتمع الفرد يدخل في خانة صلاح المجتمع العالمي الكلي،
وهكذا سنصل الى استنتاج متفق عليه هو ان الشعر الرسالي الملتزم يهدف
الى صلاح الانسان، فالمجتمع الفرد ثم المجتمع البشري عامة.
ولا نريد ان نخوض هنا في الشعر الذي ينتمي الى الفن حصرا مبتعدا عن
رسالته الانسانية، فهذا الامر لا يدخل في فحوى موضوعنا الحالي، اذ نحن
نود ان نقدم قراءة في الشعر الانساني ووجدنا في قصيدة (اين الانسان)
للامام الشهيد السيد حسن الشيرازي خير نموذج لقراءة مثل هذا النوع من
الشعر الذي يضع نصب عينيه فائدة الانسان قبل أي شيء آخر من خلال النزعة
التربوية الرسالية الوضحة التي ينطوي عليها.
ان الشاعر في قصيدته هذه يبدأ بالانسان عنوانا واستهلالا في ذات
الوقت حيث يقول الاستهلال:
(أين الانسان ؟..
خدعوني / كم خدعوني باسم الانسان..؟!)
ان النبرة التساؤلية تشكل بداية ساخنة لهذه القصيدة، ونقصد بالساخنة
انها توجه سبابة التساؤل الى جهة محددة ربما تتاجر بالانسان (كم
خدعوني) ولكن مع التوغل في وحدة الموضوع التي تشكل معمارا فكريا
متصاعدا للقصيدة سنلمس نقمة الشاعر على عالم اليوم الذي طغى فيه ظلم
الانسان لنفسه ولأخيه على كل شيء، إذ يقول الشاعر الشهيد في قصيدته
هذه:
(كم خدعوني باسم الانسان؟
ففتحت عليهم باب القرآن
لعلّي أبعث تجربة الاديان
فأمتصًّ وجودي الغيلان.....)
هكذا اذن هناك صراع بين الشاعر (الطليعي) في مجتمعه من جهة وبين
الانسان الآخر الذي لا يتورع عن غمط حقوق الآخرين بشتى السبل والوسائل،
ان الشاعر هنا يفتح جبهة الحوار مع الآخر الذي هو الانسان المقيم فوق
بساط المعمورة ويلقي عليه سلسلة من التساؤلات التي ما تلبث ان توجه
لومها للانسان نفسه فنجد شاعرنا مخاطبا الكل:
(زرعوني بالايمان
فنشرت صلاة الايمان
ونهضت من الاكفان
احرك ذبذبة الاحسان
ونثرت عليهم اهداف الفرقان
واذا بي في محرقة البهتان
جثمانا، خلف جدار الوهم..
بلا عنوان.)
وتتواصل سلسلة التساؤلات حيث الانعكاسات المريرة من واقع الانسان
وحياته معا تنسكب على خيال الشاعر وعلى روحه في آن بعد ان يلحظها
ويعيشها مع الآخرين كونه واحدا منهم، فتتحول الى موجات من الألم الممض
وهو يتابع بمرارة خداع الانسان لنفسه وغبنه البيِّن لأخيه اذ يتساءل
شاعرنا قائلا:
(أين الانسان ..
وما هو شكل الآنسان؟..
وما هو لون الانسان؟..
وماذا تعني الانسانية في مجتمع الذؤبان؟..
ما دام الكون حديقة حيوان.....)
ويتضح سخط الشاعر بصورة جلية عندما يغيب العدل وتعلو كفة الشر ويصبح
القانون سيفا بيد السلطان والعدالة الكاذبة اداة يحقق من خلالها مآربه
فنقرأ في هذه القصيد:
(ماذا يعني قوس المحكمة العليا.. وشعار الميزان؟؟..
ما دام السلطان يساوي الميزان
وليس الميزان يساوي السلطان
ما دام الحريات.. بأيدي الجلادين..سيوف .. وسياط..
ما دام القانون يفصّل كالمطاط
وتجري قنوات الريح بدون بساط.)
ويصل شاعرنا الى ذروة سخطه من الانسان عبر طرحه لصورة محبطة ومؤلمة
في ذات الوقت عن كائن العصر الراهن ويتساءل بألم مرير قائلا:
(ما كنت أظن الانسان.. صدى الشيطان
ما كنت أظن الجن.. ملائكة الرحمن
ما كنت اظن الكون.. جحيما خلف الالوان)
ويطرح الشاعر حقيقة مرة ومؤلمة توصل اليها وهي تخص الانسان المخادع
والمخدوع والظالم والمظلوم في آن قائلا:
(والآن..
عرفت قراءة ما تحت العنوان
وعرفت الاغراء، رحيق الهجران
وعرفت الورد، يموّن خبث الشوكِ..
وقرف الديدان
وعرفت الليل، يغطي آهات المظلوم..
وعربدة السكران
وأخيرا يعلن شاعرنا( ان الحريات مواويل الخسران).
ان هذه القصيدة تضع اصبعها على الجرح الانساني تماما وتعرض مأساة
الانسان بوضوع لا يتلبسه الغموض او التستر، فمعركة الانسان ضد نفسه
وصلت الى حد لا يطاق والشاعر بوصفه انسان طليعي وعين ثاقبة وفكر وقاد
وخيال راق ونفس سامية يقدم لنا في قصيدته (أين الانسان) مشهدا متحركا
للعلاقات الانسانية الحياتية التي تنطوي على الكثير من اللبس والغموض
والتشوش مع استشراء حالات الشر من خلال تجاوز الانسان على انسانيته،
ولذلك نرى في هذه القصيدة جرأة كبيرة ودقة عالية في رصد الوقائع بلا
تزيين او محاباة وجاءت لغة القصيدة موائمة لمضمونها، لغة حارة ناقمة
تعرض للانسان بوضوح بالغة وبمنتهى القوة المخاطر التي تنتظره اذا ما
اسرف وغالى في ظلمه لنفسه ولذا تعد هذه القصيدة من القصائد التحريضية
للانسان الذي يغفل سبل الخير ويوغل في سبل الشر، فهي بمثابة ناقوس
الخطر الذي يحذر الانسان الشرير من مغبة أعماله. |