لا اعتقد بان اسرائيل الجاثمة على الارض الفلسطينية هي دولة غبية
الى درجة عدم قدرتها على قراءة التاريخ على الاقل في المدى القريب منه،
ولذلك فلا اعتقد حتما بعدم قدرة اسرائيل على قراءة الخريطة الجيوسياسية
الفلسطينية الاسرائيلية المشتركة التي افرزت اتفاقات التسوية المرحلية
بين الفلسطينيين والاسرائيليين، والتي انتجت اتفاقا مرحليا اوقف دوامة
عنفية استمرت لعشرات من السنين التي سبقت الاتفاق، الذي اعتقد جازما
بان الاسرائيليين وعن عمد ( لا اعرف ان كان مشبعا بالذكاء او الغباء )،
قد افقدوه طعم ولون ورائحة الاتفاق الذي يقود الى اخماد نيران العنف
التي ستستمر ما دام الاحتلال جاثما على صدور الفلسطينيين، ومتنكرا
لحقهم في العيش بسلام وامن وكرامة، فلطالما انتهج الفلسطينيون نهج
الاتفاقات التفاوضية مع اسرائيل وتم اسقاط هذا النهج بفعل الضربات
المتتالية التي وجهتها اسرائيل اليه، فكان لسان حالها يقول ان اسرائيل
قد عقدت عزمها على ابقاء الفلسطينيين والمنطقة برمتها مشغولة رغما عنها
بالعنف الدائر على الاراضي الفلسطينية. هنا اقول انه على الرغم من
التجارب الكبيرة التي خاضتها اسرائيل حيال صراعها التاريخي مع
الفلسطينيين والعرب، فانها على ما يبدو لم تستطع استخلاص العبر التي
طالما سمعنا استخلاصها من قبل قادة اسرائيل السياسيين والعسكريين،
والذين يصرون ويكررون دائما بقدرتهم على الاستخلاص والتعلم من الدروس،
الا الدرس الذي علمته الشعوب المحتلة لجيوش الاحتلال وقوات الاستعمار،
وهي ان الارادة الشعبية الرافضة للاحتلال لا تسقط بالتقادم الذي لا
يسقط الحق الشرعي ايضا مهما طالت عواقب الازمان، فالحق عائد الى اصحابه
وان تعاقبت الحقب وتبدلت الاجيال، وهذا ما ينطبق على الشعب الفلسطيني،
وان كان عدد من الفلسطينيين قد اثروا ان يجففوا منابع العنف التي تغرق
المنطقة بفعل من اصرار الاحتلال على احتلاله، فان الاحتلال قد اثر على
نفسه عدم الخروج من الدائرة العنيفة التي استهوته فيها رائحة الدماء
ومعادلات الحقد الذي يتعمق يوما بعد يوم، وانني هنا اذ استغرب تلك
العبثية التي تنم عن غباء كامل ومطبق في قراءة المرحلة القصيرة التي
اعقبت اتفاق اوسلو والتي شهدت هدوءً نسبيا لا شك فيه، والذي لو قصد
الاسرائيليون الاستمرار فيه لترسخ الهدوء ولانهارت كل الدعوات المبررة
الى العنف في العقائد الشعبية والجماهيرية التي تذوق طعم المر لما
تكابده من ويلات الاحتلال، وصحيح ان هذا الهدوء قد جاء من خلال اتفاق
رفضه الكثير من الفلسطينيون لقضمه الكثير من المباديء الفلسطينية
الازلية والتاريخية، الا انهم اعطوه فرصة كبيرة ومناسبة ليقرؤوا من
خلاله بعض صفحات السياسة الاسرائيلية التي انتهت الى مئال ما نراه
اليوم، تعنت يعقب تعنت، وقتل يعقبه مجزرة، ودمار يعقبه دمار، وامعان في
بناء القواعد التاريخية للاحقاد، وتعميق للجراح التي بات من المستحيل
عليها ان تندمل في ظل وجود الاحتلال، والسؤال المحير الذي يدمدم على كل
ما عرفنا من اليات التفكير المنطقي هو، الم يتيقن الاحتلال انه لن
يستطيع ان يكسر ارادة الشعب الفلسطيني الذي يريد السلام بكل جوانحه
واطيافه؟؟ الم يكتف الساسة الاسرائيليون من اذاقة الشعب الاسرائيلي
والفلسطيني رعب العنف الذي لا يولد الا عنفا؟؟ ذلك العنف الفلسطيني
الذي يقابل ارهاب دولة الاحتلال، الم تتيقن اسرائيل بعد ان معظم الدول
الغربية باستثناء امريكا لا زالت تؤكد على عدم شرعية الاحتلال
واجراءاته القمعية ضد الفلسطينيين؟؟ تلك الدول التي لا زالت ترفض
الاستيطان وذيوله وتبعاته من سرقة للارض الفلسطينية ونهب لخيراتها،
فعلى الرغم من مرور حوالي اربعين عاما على الاحتلال الثاني للاراضي
الفلسطينية في عام 67 الا ان الدول الغربية عموما لم تتوقف عن عدم
الاعتراف بشرعية الاحتلال الاسرائيلي عليها، وبالاصرار على ذلك في كل
الفرص المتاحة التي لن يكون اخرها قرار محكمة العدل الدولية في موضوع
الجدار العنصري الفاصل، وتصريحات الخارجية البريطانية في اعقاب تسلم
الوزيرة البريطانية الجديدة لمقاليد وزارة الخارجية قبل اسابيع، وما
يضاف اليها من مواقف مجلس الاتحاد الاوروبي الاخيرة التي عبر فيها بلا
مواربة عن عدم شرعية الاحتلال وتبعاته.
الشاهد في حديثي هو ان على الاسرائيليين اولا وقبل غيرهم ان يعوا
جيدا حجم التمسك الفلسطيني بموقفه الرافض للاحتلال على الرغم من
الخسائر الفادحة التي يتكبدها في كل يوم منذ عشرات السنين، مع التنبيه
الى قوة موقفه ورسوخه من خلال الواقع الذي نعايشه في عدم خنوع الشعب
الفلسطيني لقوة الاحتلال ومحاولاتها في فرض حقائق الامر الواقع، ومن
خلال قوة القانون الدولي الذي وان تعرض للتجميد والتهميش الا انه لا
زال راسخا وثابتا في قواعده الداعمة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير
مصيره واقامة دولته المستقلة، والذي يعني فيما يعنيه احقيته التي لا
تعقيب عليها في الوقوف امام الاحتلال بكل الوسائل المتاحة، ولست هنا
بصدد سرد القرارات الدولية التي تؤيد ذلك، فهي كثيرة ومتعاقبة لسنوات
طويلة تم احياؤها في القرار الشهير لمحكمة العدل الدولية الذي اسلفت
الاشارة اليه. وبصورة اخرى فانني لا ارى سببا في ان يتخيل الاسرائيليون
ومن خلال الدعم الذي يتلقونه من الحليف الدائم لهم ( الولايات المتحدة
الامريكية )، على ان العنف قد يتوقف في ظل وجود الاحتلال، وهذا ما
يعاكس منطق التاريخ، ويتعارض مع التجربة الفلسطينية الاسرائيلية في
اعقاب اتفاقيات التسوية التي حافظت على الهدوء النسبي في المنطقة
برمتها، وهذا ما يدفع الى القول بان اسرائيل تقف في وجه التاريخ
وتحاول ان تعاند حركته كما ورد في اكثر من مرة على لسان الكثيرين من
الكتاب الاسرائيليين الذين بدأوا يوجهون الانتقادات اللاذعة لدولتهم
على السياسة القمعية الاحتلالية التي لا زالت تمارس ضد الشعب الفلسطيني،
ولسنا ببعيدين جدا عن استطلاعات الراي العام الاوروبية التي تضع
اسرائيل في راس الهرم السببي الذي يقف خلف العنف في كافة انحاء العالم،
وبالتاكيد فان ذلك يعود في الاساس الى بقاء اسرائيل كقوة محتلة لا زالت
مصرة على استعباد شعب اخر واستبعاده من قوائم التاريخ التي تموج
بالحقائق الساطعة ان لا بقاءً ابديا للاحتلال مهما امتلك من قوة ومن
جبروت.
اذا، فاننا في وضع مستغرب جدا، وهو ان اسرائيل التي تدعو الى السلام
ليل نهار امام العالم، ومن خلال اجهزتها الاعلامية او تلك التي تحالفت
معها، تعمل على تكذيب نفسها وتبرهن على ذلك من خلال التعاكس مع الواقع
العملي الذي تذكي من خلاله نيران العنف وكأنه اصبح مهنة او حرفة لا
يمكن لاسرائيل التخلي عنها لكونها اصبحت اداة الارتزاق التي لا يمكن
لها التخلي عنها كمغذ لشريانات الحياة فيها، وهو ما يتعاكس في الواقع
مع حركة التاريخ وحتمياته التي تتجاهل بان لكل فعل رد فعل مساو له في
المقدار ومعاكس له في الاتجاه، وهذه هي المعادلة التي لا تنطبق على
العنف وحده، وانما تنطبق على الهدوء ايضا، فكلما زاد ارهاب الاحتلال
كلما زاد عنف الشعب الذي يقع عليه الاحتلال، وكلما نحى الاحتلال الى
الاعتراف بحقوق الشعب الذي يحتله كلما زاد الحافز الى الهدوء، والجنوح
الى السلام، وكلما زاد الحرص على تطوير افضليات السلام على غيره، ولنا
ان نتخيل كيف سيكون الوضع ان رحل الاحتلال الاسرائيلي، كما كان قد فعل
جزئيا بعد عام 94 ، بالتاكيد، فان كل مبررات العنف ستنطوي على نفسها
وستتلاشى تلقائيا، دون ان نستغبي انفسنا ونكلفها عناء البحث او الدعوة
في البحث عن اسباب العنف المتزايد، فانهاء الاحتلال سيكون حتما هو
الوصفة السحرية لانهاء العنف. |