ثمة من يرى ان السرد الواقعي قد انحسر كثيراً بعد ان تراجعت
الواقعية وهجعت منذ وقت طويل في الخانة السفلى للأساليب والمسارات التي
عالجت السرد بشكل عام.
وإذا كان علم السرد لا يتحدد بالمفهوم التقليدي لعنصر القص حيث
يتعدى ذلك الى انواع اخرى تتضمن السرد بأشكال مختلفة مثل ( الأعمال
الفنية / تشكيل وأفلام سينمائية) فأن السرد الواقعي في قصص عباس لطيف
لا يتحدد أيضاً بالمنحى الحكواتي المتسلسل او الملتزم بتراتبية الزمن
والحدث القصصي على حد سواء.. بل هناك نوع من الحريـــــــة او(
الأنفلات السردي) اذا جاز القول يوفر للقاص فرصة التحرر من قولبة
الأحداث في الأطار التقليدي الذي هجرته القصة منذ اعوام بعيدة.
وحين نطالع نصوص القاص عباس لطيف نحدس للوهلة الأولى انه ينهل من
الواقع ولا يرتفع عليه أو انه مشدود تماما للحدث الواقعي المستل من
تجربته الحياتية وذاكرته الشخصية غير اننا مع تقادم الأبحار في مساحات
القص سنجد ان الأستهلال الواقعي ما يلبث ان ينزوي او يتناثر في المساحة
السردية الحرة التي تتمحور حولها أحداث السرد وهذا ما نجده في قصة(هموم
عازف الناي)*.
إن هذه القصة تكاد لاتذهب بعيداً عن مثالب السرد الواقعي لا
سيما في الأستهلال القصصي: ( ها قد بدأت الحفلة في النادي الليلي
وانزاحت الستارة التي تحجبنا عن الجمهور…إلخ) إنها حكاية الشارع او
المقهى او حافلة نقل الركاب وباختصار انها حكاية كل يوم فالرجل عازف
الناي يتحدث لمستمعيه عن قصته اليومية التي تحفل بالشقاء ولكن ماهو
الجديد في ذلك على مستوى الفن ؟!.
إن هذا السرد الذي يأخذ مادته من الواقع يبدو وكأنه لاينتمي الى
واقع السرد الحالي او الى التحولات السردية الحديثة التي أسهمت في
تشكيل الخطاب القصصي الحديث .. ولكن القاص عباس لطيف معني بهذه
التحولات الجديدة اذا صحت التسمية وهو يعلم ويوافق على ان كل من ينتمي
الى حقل السرد إبداعياً سيكون معنياً بالضرورة بما يستجد في هذا الحقل
من تطورات .. ولذلك نرى ان التركيب اللغوي لقصة (هموم عازف الناي )
سيرتفع بالحدث التقليدي الى مصاف الفن .. وهي محاولة مهمة لجأ إليها
القاص كي يسحب قصته هذه الى خانة أعلى تنتمي الى حداثة الخطاب القصصي
وطرائقه الفنية الجديدة .
لقد وعى عباس لطيف لعبة السرد كما يبدو ، فبدأ في قصته هذه
واقعياً وأضفى على بطلها عازف الناي نَفَساً حكائياً لكنه ما لبث ان
كسر هذه التراتبية المقيتة ليهشم صورة الواقع المكرور وتفاصيله المملة
من خلال تهشيم التسلسل الحدثي والزمني في آن ، إذ اننا في لحظات سننتقل
الى خارج النادي الليلي لنسوح في عوالم بعيدة عن العزف والناي وعن
المسرح والستار لندخل في مسرح اوسع يضج بالأضطراب والحركة غير المنتظمة
مما يتولد لدينا إنطباع عن حالة الأرتباك التي تُبعثرُ عازف الناي
وحكايته في آن.
إن عباس لطيف الذي بدأ واقعيا لم ينتمِِ في آخر المطاف الى
الواقع وأعطى قصته هذه واقعا جديدا للسرد بوساطة لغة قص دفاقة تشتبك مع
ذاكرة متوقدة وخيال متأجج يرسم صورا مستمدة من الواقع لكنها لاتنتمي
إليه.
وفي قصص أخرى يذهب القاص الى أسلوب التمويه في العنونة القصصية ،
أو بكلمة اخرى يحاول ان يموه في توظيفه للعنوان القصصي ، ونرصد ذلك في
قصة (طقوس سريالية)** إن لحظة الأنفصال عن الواقع الخاص تبدأ مع دخولنا
لواقع النص كما تذهب الى ذلك ( سوزان لوهافر) في كتابها الأعتراف
بالقصة القصيرة وفعلا يمكننا ان نتخيل واقعنا الشخصي في لحظات الأندماج
الكلي مع السرد الذي يأخذك في أغلب الأحيان بعيدا عن الراهن اللحظوي.
إن مفردتي (طقوس سريالية) تحيل الى أجواء تتقاطع كليا مع الواقع
وتحيل ايضا الى التشكيل وربما الى بيكاسو نفسه او سلفادور دالي .. فهل
ثمة في هذا النص ما يحيل الى ذلك .. لقد ذكَّرني هذا الأستهلال بدراسة
مهمة للناقد العراقي ياسين النصير يسهب فيها بتحليل الأستهلال القصصي
في البناء الفني للنصوص السردية عموما ، غير ان القاص عباس لطيف يذهب
الى أبعد من ذلك عندما ينوه لك بشيء ويفصح عن غيره ، فالمتن السردي
يكاد لاينتمي الى المفتتح وفي الوقت ذاته لاينتمي الى يوميات الحياة
العادية وسوف تكون اللغة عدة القاص مرة اخرى كي تسهم في تصعيد وشحن
التركيب اللغوي بما يرتفع بالنص الى ما يطلق عليه بـ( الخطاب السردي
الحداثوي) وبذلك تنجو هذه القصة من فخ الهبوط الى حافة السائد او
المعتاد او اليومي المتوقع فتبتعد بذلك عن السرد الواقعي لتنضم الى حقل
السرد المغاير .
وفي قصة ( شجرة التقاويم)*** يبدأ القاص واقعيا كما بدأ في قصتيه
السابقتين وتبدو بطلة قصته إمرأة نمطية ليس هناك ما يميزها عن غيرها من
النساء بل ان همها الأنساني يكاد يكون هما شاملا يفتقر للتفرد غير ان
القاص ما يلبث ان يستعين بعدته اللغوية والفنية في آن فيوظف الزمن
القصصي بنوعيه( زمن السرد ، وزمن الحدث القصصي) ليقدم لنا قصة ذات مغزى
انساني مستل من واقع المرأة الوحيدة وهي تمارس طقوس الأنتظار الأبدي
لغائب سيبقى ابدا قيد الغياب وستعلو هذه القصة عن الوقائع المألوفة
بلغة قص يتقنها عباس لطيف لتصبح مرة اخرى تأشيرة الدخول الى قصة مأخوذة
من الواقع لكنها لاتنتمي إليه.
وخلاصة القول ، نرى ان القاص عباس لطيف قد جيَّر الذاكرة الفردية
لأبطاله لصالح السرد.. أحداثا وزمنا.. وأخذ من ذاكرته الشخصية ما يندرج
تحت يافطة الحياة المعتادة غير انه تحاشى السقوط في هوة ( الواقع )
بوساطة لغة قص حيوية أهلته للدخول في حيز التحولات السردية الجديدة
نائيا بنفسه عن الواقعية التي (ربما) تكون قد لفظت أنفاسها مع رحيل
الناقد الأنكليزي ماثيو أرنولد القائل ذات يوم ( ان الأدب هو نقد
الحياة ) ناسفا بذلك كل النصوص الأدبية التي لا تستمد مادتها من صلب
الواقع.
هامش :
* هموم عازف الناي / مجموعة شقاء الذاكرة/ بغداد 1998.
** طقوس سريالية/عباس لطيف/ جريدة الزمان /13آب 2004
*** شجرة التقاويم/عباس لطيف/مجلة الأقلام /ع مزدوج 9/10/ 2002
. |