القواعد العامة في الرقابة القضائية على الدستور

المحامي طالب الوحيلي

 اذا كان الدستور وصياغته يعد علامة بارزه في البناء الديمقراطي للمجتمعات الحديثة، فان امرا اخر اشد اهمية هو مدى جدية هذا الدستور ومستويات تطبيقه على صعيد الواقع، ومن ثم صيانته والحفاظ عليه من التغيير والتحريف عبر وسائل استبدادية تفرضها مفاهيم السلطة التنفيذية التي يمكنها التاسيس لاجهزة امنية او مخابراتية قد تتمرد على السلطات الاخرى، لذا احتاطت تلك الدول لهذا الامر كثيرا عبر منظومات عديدة منها قضائية واخرى سياسية تترك للراي العام فيها الحيز الاعظم بما لديه من وعي وثقافة ديمقراطية اتت متوازنة مع تاريخه السياسي وما رافق تطوره من نزاعات ايديلوجية قد تجعله بمناى من الخوف على مستقبله.

لكن تجربتنا البكر مع مفاهيم جديدة في الحياة الدستورية، يضع ابناء شعبنا وسط دوامة من الخوف الذي يعتصره حتى يجعله في ريبة من صدقية النظام الدستوري ومدى صمود الدستور العراقي الدائمي بسبب ما مر به من تجارب مع الدساتير السالفة وكيف كانت مجرد صفحات مهملة في كتيبات لا يفهم منها الى صلاحيات رئيس الجمهورية التى تمركز وترسخ سلطته الاستبدادية، وليس لاحد ان يشير من قريب او بعيد حول تطبق ذلك الدستور او الاخذ به حتى لو كان امر حقوقيا لا اثر للسياسة فيه، من هنا ينبغي على كل عراقي ان يكلف نفسه مهمة البحث عن كل يساهم بادامة الدستور وصيانته كونه قد افرغ رغبته بانتخاب الهيئة التي كتبته وكذلك هو الذي صادق عليه يوم الاستفتاء، ومن تلك المساهمة ان يضع ثقله الشعبي عبر ممثليه في البرلمان، فهم لايعنون شيئا ماداموا بلا تواصل مع قواعدهم، وان يطور وعيه القانوني بهذا الشأن كونه ليس حكرا على رجال القانون دون سواهم.

تثور دائما مشكلة مخالفة الدستور في كثير من الاحيان حين يصدر قانون اويقع تصرف يتعارض صراحة مع الدستور اذا ما استثنينا الطرق الاخرى للرقابة،  كالرقابة السياسية ومثالها حق الاعتراض، ويثبت لرئيس المجلس في النظام البرلماني، وللجان البرلمانية ولاعضائة، وكذلك حق رئيس الدولة في الاعتراض بعد منحه ذلك دستوريا وكذلك حين التصديق على القانون وتحديد الجهة المخولة بذلك.

لكن الرقابة القضائية لها شانها حيث تمارس بصورتين وهي اما رقابة الغاء وطريقها دعوى الالغاء او الدعوى المباشرة،  واما هي رقابة الامتناع او الدفع بعدم الدستورية. فمضمون رقابة الالغاء هو ما تضمنه الدستور ذاته من حق للافراد او لبعض السلطات في اقامة الدعوى والطعن مباشرة في قانون ما باعتبره مخالفا للدستور وامام محكمة معينة يقع ذلك من اختصاصها.

فاذا ما اقتنعت تلك المحكمة بعدم دستورية القانون فانها سوف تصدر قرارها بالغائه،  ويكون هذا القرار نافذا بالنسبة للجميع دون الاقتصار لمصلحة الطاعن..  والمشكة التي ستثور بهذا الشان هي نوع المحكمة المختصة ن هل هي المحكمة الدستورية ام هو اختصاص المحاكم  العادية،  وقد اختلفت الدساتير بهذا الشان بين اناطة الرقابة على دستورية القوانين بمحكمة قضائية او اناطة ذلك بمحكمة دستورية خاصة،  كما اخذت بذلك دول كسويسرا مثلا بالاتجاه الاول اذ تختص المحكمة العليا الاتحادية اضافة لاختصاصاتها - المدنية والجنائية – في الغصل بالدعاوى المتعلقة بانتهاك الحقوق الدستورية للمواطنين غير ان هذه الرقابة محدودة نسبيا،  اذ انها لاتمتد الى القوانين المشرعة من البرلمان الاتحادي بل تقتصر على الدعاوى المقدمة ضد قوانين الولايات (الكانتونات)،  وهذا نموذج من الاتحادات الفيدرالية المعروفة  في العالم،   وضد القرارات الصادرة من السلطات الاخرى في الكانتونات،  فالدعاوى والطعون بالنسبة لهذه القوانين والقرارات تقبل على نطاق واسع جدا وسواء تعلقت بمخالفتها للدستور الاتحادياو لدستورالولاية،  فلكل ذي مصلحة حالية او مستقبلية ان يستفيد من هذا الحق في الطعن،  بل اجاز الدستور السويسري للافراد تقديم الطعون ضد قوانين الولايات ذات الصفة العامة حتى ولو لم تكن هنالك مصلحة للفرد كون المصلحة عامة وهي المحافطة على سلامة الدستور،  وقد اخذت بهذا الاتجاة دساتير كوبا لسنة 1934وكولومبيا 1886ودستور هاييتي لسنة 1928ودستور فنزويلا لسنة 1931..

اما الاتجاه الثاني: فهو الدعوى المباشرة امام المحاكم الدستورية وتتصف هذه الدعوى (دعوى الالغاء ) بانها على اتفاق مع سابقتها من حيث انها تاخذ صورة الدعوى المباشرة وتؤدي الى الغاء القانون المخالف للدستور بالنسبة للجميع وكلتي المحكمتين لقراراتهما حجية مطلقة،  لكن الذى يفرق بينهما هو ان الاولى محكمة قضائية عادية اما المحكمة الدستورية فانها تؤلف وتشكل على نحو خاص. ومن الدول التي اخذت بهذا النظام في دساتيرها النمسا دستور سنة 1920 الذي نص على ان الدعوى الدستورية تنظر امام محكمة العدل الدستورية وقررت اختصاصها المشار اليه كذلك اسبانيا في دستور سنة 1931 والمانيا الغربية في دستورها لسنة 1949 وايطاليا في دستور سنة 1948..

لقد انتقد فقهاء القانون طريقة دعوى الالغاء في الرقابة على الدستور في كلا الوجهين منها ان ذلك يؤثر على ارادة السلطة التشريعية الممثلة لارادة الامة او الشعب اذا ما قررت اصدار قانون ما مما تتركها تحت رحمة فرد استعمل حقا في الطعن بهذا القانون،  كما يتيح لهذه الارادة المنفردة اشغال السلطات العليا كالمحكمة الدستورية بالبحث في طلبه وحجته مما يؤدي الى ارباك مهامها الفعلية لذا،  اقتصرت اكثر الدساتير المتبنية لهذا النوع من الرقابة على اعطاء هذا ألحق لبعض السلطات العامة فقط وحرمان الافراد منه،  مما ادى بهذه الطريقة الى ان تصبح مجرد وسيلة لحل المنازعات بين السلطات العامة في المقام الأول.

كما انتقد البعض الآخر هذه الطريقة كونها  تمنح القضاء العادي صلاحيات سلطة عليا ويمنحها نفوذا كبيرا ينازع السلطة الشرعية صلاحياتها الأصلية،  مما تخصيص المحاكم الدستورية لهذه المهمة،  باعتبار ما يجري في تشكيلها من شروط ومواصفات من شانها أن تجعل الصلة وثيقة بينها وبين غيرها من السلطات الأمر الذي يجعل اثر قراراتها في إلغاء القوانين المخالفة للدستور أتخف وطأة على هذه السلطات مما لو كانت قد صدرت من المحاكم القضائية المستقلة.

ومن الانتقادات الموجهة لهذه الطريقة أيضا،  ما يتعلق بالآثار المترتبة عن التطبيق السابق للقانون المطعون فيه إذا مآتم إلغاءه،  لذا فقد جرى في بعض الدساتير حصر الحق في إقامة الدعوى والطعون في دستورية القوانين خلال مدة قصيرة ومحدودة لاتقبل، الدعاوى والطعون بعد فواتها.

رقابة الامتناع أو الدفع بعدم الدستورية:

مع إن القانون المخالف للدستور قد صدر ونفذ بحق الأفراد،  لكن الذي يعترض علية من يجد نفسه وجها لوجه مع ذلك القانون وهو أمام القضاء وفي محل الدعوى،  فإذا ما طعن أمام القاضي بعدم دستورية ذلك القانون فان علي ذلك القاضي النظر بهذا الدفع وإذا ما ستقر رأيه على صحة ما دفع به وثبت لديه عدم دستورية القانون،  فانه يمتنع عن تطبيق ذلك القانون في الدعوى المقامة امامة وتصدر قرارها في الموضوع وهو بالتاكيد ينسجم مع احكام الدستور.

 وهذه الطريقة تختلف عن طريقة ( رقابة الالغاء) في كون القاضي لايبحث متاشرة بمدى دستورية نص بصورة مجردة،  وانما ياتي ذلك من اثر النظر في دعوى تتعلق بموضوع نزاع ناشيء عن نص غير دستوري لايجد  المدعى عليه بدا من الدفع بعدم دستوريته وتجد المحكمة صحة ذلك الدفع فتحكم بة فهو لايصدر حكما بالغاء القانون ولكنه يحكم برد الدعوى كونها اسست على قانون مخالف للدستور،  وبذلك فان القانون يبقى نافذا،  ولا ينفذ حكم القاضي بحق الغير او تكون له حجية على الغير حتى ولو تشابهت الدعاوى فيما بينها  الااذا جرى الدفع بعدم الدستورية من جديد كلما اريد تطبيق هذا النص في القضايا اللاحقة كون القاضي لا يحكم بعلمه الشخصي.

 كما يخضع هذا الامر الى الاجتهادات الشخصية للقضاة وفهمهم للمخالفات مما يجب الطعن بهذه الطريقة من هذه  الناحية. واذا ما اقتضى الحال في التنازع الى رفع القضية الى المحكمة العليا فان قرارها يكون مصدرا للاحكام وبالتالي يكون سببا لتجميد القرار المخالف للدستور.

شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس  8/حزيران /2006 -10 /جمادي الاول/1427