مطالعات في الواقع الدستوري للعراق الجديد

المحامي طالب الوحيلي

الحديث  عن  الوصف القانوني للأنظمة السياسية التي حكمت العراق، حديث اذا بدا فلا ينتهي لما ساد الحياة السياسية في محيطها من علاقات بعيدة كل البعد عن منطق قانون السياسة المتعارف عليه في النظم الديمقراطية،  والتي قطعت شوطا بعيدا في هذا المجال وأغلقت أبواب الحوار والتنظير فيه بسبب سيادة القوانين الثابتة التي أسست لهذه العلاقة المتجذرة بين الحاكم والمحكوم،  وكيفية انتقال تلك العلاقة بين الأفراد على وفق نمط قانوني اعتبر من المسلمات الحقيقية في بناء الحضارة الإنسانية بعيدا عن الاستلاب والاستبداد الذي لفضته بعد ان خاضت الحروب الحارة والباردة على السواء.

 فلا غرابة ان يحكم البلاد في دولة ما فنان سينمائي أو رياضي غرس حبه في قلوب معجبيه دون الحاجة الى سطوة البنادق وقبح الأيادي الملطخة بالدماء لتتحول فيما بعد الى مصاف المشرعين للدساتير بما تتضمنه من مثل عليا وقواعد لحقوق استرقتها المدي التي حملتها تلك الأيادي.

 ولتكتب ومن ثم تنفذ قوانينها كما تشاء وكما ترغب بعيدا عن ارادة ورأي الرعية المبتلاة بالجلادين الذين ساقتهم المصالح العليا لاساطين تلك الحضارة التي أبت إلا أن تتفرد بنعيمها على الأمم الأخرى وتلك طبيعة النفس البشرية،  وهي مصيبة العالم الثالث كما يسميه علماء السياسة الذي اخذ يصغر أمام اتساع النمط الجديد في العلاقة بين طرفي المعادلة السياسية (الدولة والشعب ) حتى تحولت تلك العلاقة الى الوسيلة المثلى في معالجة كافة إرهاصات الواقع والمستقبل وسببا لنقد التداعيات والاخفاقات في إدارة المجتمعات بغض النظر عن مستوياتها ومكانتها الاستراتيجية ومستوى ونوع الأفكار والاديولوجيات التي سادت فيها.

وما دمنا في العراق وما يجري فيه، فهو لايمكن آن ينفصل عن الامتدادات السابقة من ناحية  واحدة، وهي تلك لتجارب المريرة التي ألفاها الشعب وعانى منها اشد المعاناة، كونها ولدت مع موت القانون الطبيعي والمنطقي وهيمنة قوانين الافراد ممن امتلكوا ناصية الحكم،  وكان مبدأهم (الملك أساس العدل)لا العدل أساس الملك،  كما ينعتهم الشاعر المرحوم  بلند الحيدري (ان تملك سكينا تملك حقك في قتلي !!)أي أن الحكم لديهم مصد التشريع وليس التشريع مصدر الحكم والعدالة،وماداموا يمتلكون وسائل القتل وطبيعتها الجرمية، فقد استباحوا قتل الشعب العراقي ضنا منهم الا لاقصاص سوف ينزل بهم ولا ساعة خلاص للشعب من هيمنتهم...

وقد الفت تلك الأنظمة هذه الحقيقة واعتنقتها , حتى إن مصدر عذاباتنا هذه الأيام ليس (الاحتلال) المجرد فحسب بل هو ذلك الارتباط الروحي بين قوى  الإرهاب ونظمها التي استخدمتها، سواء كانت داخلية ام خارجية، وهو صراع بين عصرين وثقافتين لابد من انتصار لاحدهما على الآخر.

 ولعل أهم مقومات انتصار ثقافة ما بعد سقوط النظام الاستبدادي هو وضع أسس دولة القانون، التي تأكدت سمات قيامها من خلال النفس الواقعي في مكابدات بناء المؤسسات الدستورية، والعمل المضني الذي وضع الشعب فيه بصماته من خلال فعلين مهمين، أولهما الأيمان بمصداقية هذا الاتجاه حيث استمد نسقه من دعم المرجعية الدينية الفاعلة، ومن الاشتراك الجاد في العملية الانتخابية الكبرى التي تفوق فيها على مواطن ضعفه وعلى المتصدين للعمية السياسية أنفسهم مما أتم مشروعية المصدر،  آما الفعل الثاني فهو الاستيعاب الكبير لعدد واسع من الأغلبية لواقع الصراع وتحمل الكثير من المعاناة والصبر على الاخفاقات التي رافقت المراحل القصيرة في عمر هذه العملية والطويلة جدا على أحلام الملايين التي ما فتئت تقاسي الجوع والحرمان والخوف من الإرهاب الطائفي والسياسي الذي أحاط بكل تفاصيل حياتها، وهو كاف لان تنزع نزوعا مرعبا لولا حرصها على امل بناء تلك الدولة الحلم....

وما دمنا في مصاديق ما افرغتة المعركة الانتخابية من نتائج بطيئة في حساب الأحداث، فإننا أمام استحقاق اكبر من المصالح الآنية والتي ما زالت تحت اسر تلك التقاليد البالية, التي  شغلت البعض عن الهدف الاستراتيجي وهو الدعوة لوضع أسس البناء الحضاري الجديد، واهمها صيانة الدستور الدائم للبلاد كقانون أعلى،وميزة هذا العهد، والتأسيس لاصول وتقاليد جديدة تحمي وتضمن وتكفل سيادة هذا الدستور وبقائه كمصدر أوحد لمشروعية وشرعية الحكومة والحكم وهو أمر أهم بكثير من الاختيار والاختلاف والاتفاق على نص آو مبدا آو قاعدة من محتوياته، او المغالات في بذل المزايدات في الهيمنة على وزارات بعينها، وتسخيرها لاغراض طائفية تتنافى مع واقع الاستحقاقات الوطنية وحقوق الاغلبية البرلمانية.

وبهذه المناسبة اجد من الضروري الاشارة الى ان احد الاحزاب التي حصلت على غنيمتها من الوزارات، قد وجه تعليمات لاعضائه ومؤازريه بالتقدم للطلب التعيين في عدد من الوزارات التابعة لكتلته، مما يعني المنحى الطائفي لذلك الحزب في تقسيم الوزارات الى وزارات طائفية، وهذا ما يخشى منه على مستقبل الدولة القانونية وما ينبغي ان تعكسه من العدل والانصاف.

 فالعبرة الأهم هي كيف تضمن قبول الشعب للعلاقات الديمقراطية وتقاليدها، مادام هو مطلع على كل مايجري وشاعر بالحيف الذي يناله بسبب سوء نوايا بعض الكتل او الاطراف السياسية التي راهنت منذ البداية على اجهاض آمال الاغلبية التي كانت محل اضطهاد واستغلال النظم السالفة،  وقد تثور الكثير من المعوقات في سبيل انجاز الكتلة الاكبر والقوى المخلصة للقضية العراقية لبرنامج الحكومة الذي يمثل تطلعات الناخب العراقي بحياة مرفهة ومستقبل سعيد له ولخلفه.

المواطن العراقي والعالم باسره على اطلاع لما يجري من جلسات برلمانية تأكد في كثير من اوقاتها على حيوية الدور الذي سوف يلعبه البرلمان العراقي في الحياة العامة، وقد يكون مثالا غير مألوف لدى المواطن العربي لما اعتاد عليه من برلمانات صورية لاشأن لها سوى التصفيق للسيد الرئيس، ولكن السؤال الذي لابد ان يثور هو كيفية تقويم عمل النائب وهل هو ملك نفسه لايهمه سواء ان حضر الجلسات ام لم يحضرها، وقد يلفت الانتباه الغياب المستمر لاعداد كبيرة من اعضاء المجلس، ومطالبات احدى الكتل البرلمانية المدللة في منح الاعضاء مخصصات مالية بنسبة مائة الف دولار للعضو اضافة الى تزويد اعضاء هذه الكتلة حصرا عجلات ضد الرصاص وو....

والسؤال الآخر هو كيف يمكن مراقبة تطبيقة الدستور الدائمي وعدم خرق احكامه، وما الجهة التي لها الحق في الطعن بالاعمال والتصرفات المخالفة له،  واي محكمة عامة صاحبة الولاية في الحكم بذلك بحيث تتمكن من فرض سلطتها على كافة الاقاليم ما دام الحكم اتحاديا ومن يضمن الالتزام بالخضوع الى تلك السلطة واي قوة كفيلة بتنفيذ احكامه؟

هذه الاسئلة جزء من اسئلة كثيرة يمكن ان تثور ما دمنا في عهد دستوري ودستور مصدره الشعب وليس حفنة من الانقلابيين فكيف يجاب عليها  ؟

شبكة النبأ المعلوماتية-االسبت 3/ حزيران /2006 -5/جمادي الاول/1427