العراق بين الحدث الدموي اليومي ومن وراءه

المحامي طالب الوحيلي

لا شك ان المشهد العراقي اليوم هو امتداد لتداعيات تراكمت على مدى عقود من الزمن فتجسمت لتشكل صفحات التاريخ السياسي لهذا البلد منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى الوقت الحاضر الذي يمهد لتأسيس عراق جديد يقوم على اسس وركائز متينة وليس على قواعد رخوة لطالما كانت عرضة لتغيرات دموية تودي دائما بناه وترمي به وبشعبه الى اعماق الهاوية بعيدا عن الكينونة الحضارية ومجاراة التطور الانساني في المعمورة.

 ودون البحث في التاريخ البعيد، فقد برزت على صعيد الواقع عدة نظم تقاذفت الشعب العراقي وكلها نظم عرجاء لانها حملت في مضامينها تسلط فئوي او طائفي او قومي ضد مصالح فئات ومكونات اساسية لهذا الشعب، وكأن واقع النظام السياسي العربي بصورة عامة والعراق بصورة خاصة لا يستقيم الا عبر هذا التسلط الذي لابد له ان يفقد جدواه تحت رياح الواقع الجديد الذي اغرته طبيعة التطورات السياسية التي تحققت اواخر القرن العشرين منها قيام الجمهورية الاسلامية في ايران على اثر ثورة شعبية تحررية انتقلت من ربقة استراتيجية الهيمنة العالمية فكانت اول اسقاط للحسابات الامبريالية، ومن ثم اعقبها سقوط الاتحاد السوفيتي ومنظومته العالمية والشعبية السياسية للفكر الماركسي الذي كان يشكل ثقلا كبيرا في الحرب الباردة، فضلا عن السعي الاوربي لتشكيل وحدة سياسية اقتصادية وما الى ذلك من نتائج حسمت لصالح الشعوب التي كانت مهمشة ومنقادة الى ايديولوجيا انظمتها الاستبدادية.

وما يلفت النظر ان هذه المتغيرات قد تأكدت وتركزت بعد استقراء جديد لعالم القرن الحالي بعد ان انتهى الرهان على تعدد الاقطاب وانحساره لصالح قطبية المنظمة الدولية التي ينبغي ان تدعم وان يعاد تقييمها دوليا تجنبا لهيمنة احادية لدولة ما، وكل ما يجري لم يمس شغاف الواقع العربي وكأن هذه البقعة من العالم عبارة عن جسد ميت في حوض من المواد المانعة من التحلل، فالانظمة ذاتها بنمطيتها سواء كانت انقلابية الاصول او وراثية الحلول او دستورية بلا دستور، واذا ما ارتأت تغيير لون جلدها فانها تستخف بشعوبها لتجري مسرحيتها المستوحاة من الادب الديمقراطي لتجري انتخاباتها او استفتاءاتها التي لا بد ان تعلن نتائجها بكل فخر حيث تصل الى 99.99% في اغلب الاحيان، ولا يجد المواطن في تلك البلدان سبيلا سوى الاذعان والتصديق والايمان الاعمى بتلك الديمقراطية المزعومة وتلك الشرعية التي لا يستحي منها منظروهم وسياسيوهم باعتبارها معيارا للشرعية كما هم في فضائيات هذه الايام ولكذبهم على انفسهم صدقوا ما الفوه وذلك شأنهم وهم قادرون على تأويل الوقائع وتزييف الحقائق حتى جعلوا من ارباب الكفر والطغيان اولياء امور لابد من اطاعتهم وكذا رأوا في صدام ونظامه لانه رمز انظمتهم التي اهتزت عروشها منذ سقوط عرشه وتكسرت مساندها حين كسر الشعب العراقي صمت شعوبهم بعد ان زحف كل المظلومين وورثتهم بشبابهم وكهولهم وبكل نسائهم اللائي تحملن من ظلم وطغيان صدام وقتله وحروبه ما لم تتحمله كل نساء العالم، فكل هذا الشعب الذي طالما غيّب وطالما كان الجزء المقتول في الجسد العراقي   كان له هذا الزحف الذي طبع بتلك الصبغة البنفسجية الزاهية اسمه على وثيقة سيادة العراق وشرعية من يأتي لخدمته ويأتمر بأمره فيكون الشعب هو الحاكم ومن انتخب وفاز بثقته هو المحكوم وهو منطق حلم بتحقيقه واضعو نظرية(الشعب مصدر السلطات)وتجاهلته الكثير من نظم الديمقراطية ان لم نقل كلها.

من هنا تأتي الحملة المسعورة التي استهدفت العملية السياسية بعد سقوط نظام صدام البائد والتي تكالبت على الشعب العراقي متحالفة فيها بقايا النظام من بعثيين وطفيليين وايتام بما تحمله هذه المسميات من حجم واتساع ليشمل بعض الذين هاموا بطائفيته ورضوا بجرائمه ضد الاغلبية المضطهدة ايام ظلمة مشرّعين جرائمه التي انفضحت والتي لم تتمكن المقابر الجماعية من اخفاء آثامها لا سيما سياسته ضد دول الجوار ومباركتهم حروبه الظالمة التي حازوا فيها الانواط والاوسمة والنياشين التي ما تزال تلاحقهم بعارها وما نهبوا من خلالها من ثروات وحقوق معنوية صارت مصدر تمايز بينهم وبين الملايين التي جفت وذبلت جلودهم ومقلهم جوعا وحزنا، فهؤلاء اليوم لم يرعووا ولم ينثنوا واباحوا كل الجرائم وتحالفوا مع كل الشواذ والتكفيريين والنواصب لاجل قتل العراق تحت مسميات المقاومة التي فضحتها افعالهم وما تظهره الفضائيات العراقية وغيرها من خزي ما بعده خزي الا خزي هؤلاء حيث توحدت جرائم القتل بمقابل المال المغصوب بجرائم لا اخلاقية تقزز النفس وافعال تستهدف كل حياة وكرامة الشعب.

وقد وقفت تلك القوى الحاضنة للارهاب مواقف غريبة من الدم العراقي ،وراحت تتباكى على الزمر التي القي القبض عليها واعترفت بجرائمها امام كاميرات التلفزة ،فيما اتهمت وزارة الداخلية بالطائفية وكأن المجرمون جميعهم من طائفة اخرى يحق لها وحدها اراقة دماء العراقيين اينما كانوا سواء في الموصل او الرمادي او ديالى او بغداد او كربلاء وهلم جرا،واذا نصبت هيئة مشايخ او صحف صفراء بعينها من نفسها وصيا وقيما عن المجرمين والقتلة مغمضة عيونها عن موجات التفجيرات التي تدوي ساعة كتابتي مقالي في احياء مدينة الصدر الفقيرة والمكتضة السكان وقد استهدفت احدى مفخخاتها سوق جميلة المزدحم ،في الوقت الذي انفجرت مفخخة اخرى مسجدا شيعيا قرب الاعظمية وقبل ذلك بايام قلائل استهدف مسطر لعمال البناء في وسط مدينة الصدر راح ضحيته اكثر من اربعين شهيدا وعشرات الجرحى وكلهم ممن ابكر في الخروج من داره طلبا للرزق الحلال ،واذ يتمادى شيوخ الارهاب في التباكي على مجرميها حين تصطادهم يد العدالة ،تطالعنا احدى الفضائيات الاردنية وهي تعرض وجها لوجه احد الكلاب الضالة (ابو حذيفة الكربولي) الذي تحدث عن جرائم اختطاف وقتل سائق اردني والتحدث مع اشقاء الضحية عبر الهاتف المحمول وبدم بارد عن قتل شقيقهم بعد تعريفهم بشخصه القذر من كونه من اتباع الزرقاوي ،واعترافه ايضا بخطف وقتل الدبلوماسيين المغربيين واختطاف احد وكلاء وزير المالية وعدم قتله كونه كان سنيا على حد وصف الارهابي المذكور الامر الذي اقتضى اطلاق سراحه بعد استلاب سيارته الخاصة لغرض بيعها ،وما الى ذلك من جرائم اخرى شارك بها هذا (المقاوم )الشريف جدا ليقع في النهاية بقبضة السلطات الاردنية التي لايمكن اتهامها بالطائفية كحال وزارة الداخلية العراقية او لايمكن الطعن بسلوكها في انتزاع الاعتراف من المتهم ، وهو نموذج من النماذج التي اعترفت بمحض ارادتها بجرائم يندى لها جبين الانسانية ..

فاي شرعية يتبجج بها البعض ما داموا قد انخرطوا وتلبسوا بتلك الجرائم تحت يافطة "المقاومة"،وبعضهم قابع الان تحت قبة البرلمان العراقي ويتحدث جهارا عن الحوار مع الارهاب ويرفض قاطعا تنفيذ قرارات اجتثاث البعث ،ويعد ويتوعد دون ان يؤلمه هاجس الدماء العراقية النازفة كالغدران، طاعنا بالعملية السياسية ،كونها في ظل الاحتلال فأي انتخابات شرعية جرت في الدول (غير المحتلة) والمتحررة جدا واي دستور اكثر شرعية والقانون الذي شاركت في وضعه نفر من المجرمين ليحكم العراق اكثر من ثلاثة عقود واي مداهمة رفضها البعض لاوكار الجريمة والانحراف واي معتقلين اعتقلوا وهم بمنأى من العقاب العادل الذي يجب ان ينزل بهم، واذا كان هذا البعض ممن يرجو بصدق تحرير العراق فعليه ان يسعى بصدق الى مد يد المصالحة والرجاء لكي يتأسس نظام حكم عادل لوطن موحد لا يظلم فيه احد.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية-السبت 27/ايار/2006 -28/ربيع الثاني/1427