تثار بين الفينة والأخرى قضية الولاء والانتماء الوطني للشيعة العرب.
وعلى الرغم من الإيضاحات الكثيرة التي يبديها الشيعة، بمختلف اتجاهاتهم
وانتماءاتهم حول هذه المسألة، فتهدأ فترة، لكن غبارها ما يلبث أن يثار
من جديد، طبقاً لحسابات إقليمية ودولية، دونما مراعاة لحقائق التاريخ
والحاضر، أو حرص على وحدة الموقف والمصير.
إن الحجة الرئيسة التي يبني عليها المشككون أفكارهم تلك، هي وحدة
الانتماء المذهبي بين الشيعة العرب وإيران، حيث يدين كلاهما بالإسلام
طبقاً لقواعد المذهب الجعفري. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن إيران كانت
غالبيتها سنية طيلة ألف عام، ولم تصبح غالبيتها شيعية إلا مع قيام
الدولة الصفوية قبل خمسة قرون، وعلى يد رجال الدين العرب من جبل عامل
في لبنان. فهل من المعقول أن نشكك في ولاء السنة العرب قبل هذا التاريخ،
ونتهمهم بالولاء لإيران لأن عددا لا يستهان به من علمائهم كانوا من
الفرس، أو لأن دولاً سنية فارسية قوية قامت في إيران؟ هذا وقد كان
العديد من حكام العراق الحديث، إما من أصول تركية أو من خريجي المدارس
العسكرية التركية، فهل نعتبر ولاءهم لتركيا وليس للعراق؟ وماذا عن محمد
علي باشا (الألباني) الأصل، ألا يعد باني مصر الحديثة، وظهرت في عهده
وأبنائه بواكير النهضة الوطنية المصرية، التي قادها ساسة ومفكرون
وشعراء، كان العديد منهم من أصول شركسية وتركية وكردية وغيرها، أمثال
قاسم أمين وأحمد شوقي الذي كانت حماسته للترك ودفاعه عنهم لافتة
للأنظار؟ والشيء نفسه يمكن أن يقال عن خير الدين باشا التونسي، الذي
يعتبر رائد النهضة في تونس الحديثة.
ولو تصفحنا التاريخ القريب لوجدنا العديد من الشواهد، التي تؤكد أن
الشيعة طالما غلّبوا الانتماء الوطني على الانتماء المذهبي. فحينما
دخلت الجيوش الانكليزية إلى العراق لاحتلاله عام 1914، وكان العراق
يرزح تحت السيطرة العثمانية التي مارست سياسة طائفية وعنصرية متعسفة ضد
شيعة العراق، أعلن مراجع الشيعة في العراق الجهاد ضد القوات الغازية،
وحرضوا القبائل وجمعوا الأموال والسلاح للقتال جنباً إلى جنب مع الدولة
العثمانية التركية السنية التي اضطهدتهم طيلة قرون، مغلبين الحس الوطني
العراقي والحماسة الدينية الإسلامية على الانتماء للمذهب والطائفة،
بينما توارى شيوخ السلطنة ـ الذين طالما أغدقت عليهم السلطات التركية
الأموال والامتيازات ـ عن الأنظار!
والأمر نفسه حصل في الثورة العراقية الكبرى عام 1920، التي أشعلت
شرارتها أيضاً فتاوى مراجع الشيعة للجهاد ضد المحتل، التي أفشلت
المخططات البريطانية بحكم العراق عسكرياً، كما هو الحال في الهند
والاستجابة لمطالب الثوار بقيام الحكم الوطني وتعيين حاكم عربي مسلم من
دون سؤال عن مذهبه. وقد دفع الشيعة العراقيون ثمن مواقفهم الوطنية
غالياً، إذ قرر الإنكليز، وهم أصحاب القرار الفعلي في السياسة العراقية
في تلك الحقبة، حرمان الشيعة من الحكم وإقصاءهم عن مواقع المسؤولية في
الدولة العراقية الحديثة، رغم أنهم يشكلون الأغلبية السكانية في
العراق.
لقد استمر إقصاء الشيعة أو تهميشهم خلال حقبة الحكم الملكي
والجمهوري، لكن ذلك لم يفت من عضدهم وطنياً وعروبياً، ويشهد التاريخ أن
الشيخ محمد مهدي كبة، وهو من عائلة شيعية بغدادية عريقة، مؤسس حزب
الاستقلال، يعد رائد التيار القومي العربي في العراق منذ الثلاثينات،
وفي هذا الحزب تربت صفوة الكوادر القومية العراقية، التي كانت نواة
للحركات القومية التي نشأت في العراق خلال الأربعينات والخمسينات.
ولما ظهرت الحركة الناصرية إبان الخمسينات كانت لها قاعدة شعبية
عريضة في المناطق الشيعية العراقية، وحينما حدث العدوان الثلاثي على
مصر عام 1956 كانت النجف أول مدينة تنتفض ضد العدوان وسقط فيها جرحى
وشهداء، وساندت المرجعيات الدينية الشيعية موقف مصر ودعت إلى دحر
العدوان، على الرغم من موقف الحكومة العراقية الحاضنة لحلف بغداد
المعادي للسياسة المصرية، في ذلك الحين، وموقف حكومة إيران الشاه التي
كانت تشاركها السياسة نفسها مع مصر لأنها عضو في ذلك الحلف. وبذا غلّب
الشيعة الانتماء العروبي على الانتماء المذهبي والقطري.
ويضيق بنا المقام لو استعرضنا مواقف الشيعة المساندة لنضال الشعوب
العربية ضد الاستعمار وجهادها لنيل الاستقلال في ليبيا منذ احتلالها
على يد الإيطاليين عام 1911، وفي المغرب الأقصى والجزائر وفلسطين التي
كانت قضية شغل بها الشيعة في مختلف بلدانهم، منذ أن بدأت مطامع
الصهاينة فيها تتضح بعد وعد بلفور وحتى يومنا هذا. فبإمكانياتهم
البسيطة وتضحياتهم العظيمة، ألحقوا بإسرائيل هزيمة منكرة حين أجبروها
على الانسحاب من جنوب لبنان المحتل بدون قيد أو شرط، وبدون معاهدات
اعتراف متبادل، وما زالوا ظهيراً قوياً للمقاومة الفلسطينية، ويدفعون
ضريبة مواقفهم تلك حصاراً ومؤامرات من أطراف متعددة.
والغريب أن هذه الشبهات لم تكن لتثار أيام الشاه، بسبب علاقاته
المتميزة مع الغرب وإسرائيل، ولكنها أثيرت بعد الثورة الإيرانية التي
هددت الغرب ومصالحه في المنطقة. والذي يرجع إلى السنوات الأولى للثورة،
يلاحظ أن تأثيرها لم يكن مقصوراً على الشيعة وحسب، بل شمل قطاعات واسعة
من المسلمين، فنشطت تيارات الصحوة وحركات الإسلام السياسي، بل شمل
التأثير حتى التيارات الوطنية الخالصة، وأذكر في هذا الصدد السياسي
المصري المرحوم فتحي رضوان، الذي يعتبر امتداداً لتيار مصطفى كامل،
رائد الحركة الوطنية المصرية الحديثة، فقد كان من أشد المناصرين للثورة
الإيرانية وقائدها الإمام الخميني من دون أن يطعن أحد في انتمائه
الوطني.
ومما يجدر ذكره أن المرجعية الشيعية في النجف في العراق ـ التي يرجع
إليها غالبية الشيعة في العالم العربي وإيران وبقية أنحاء العالم ـ لا
تؤمن بمبدأ ولاية الفقيه وهو الأساس الديني والسياسي الذي قامت عليه
الدولة الحالية في إيران. وجميع الحركات والأحزاب الإسلامية الشيعية،
حتى تلك القريبة من إيران، ملتزمة بموقف المرجعية، لأنها ترى أن ظروف
العراق ومكوناته الإثنية والدينية والمذهبية تختلف عن ظروف إيران.
إن عالم الأفكار عالم واسع، وفيه قابلية للانتقال والتأثير عبر
البلدان والجماعات، فلا الذين تبنوا أفكار المودودي في مصر أصبحوا
باكستانيين، ولا الذين تبنوا الفكر الوهابي في الهند والباكستان
وغيرهما صاروا سعوديين، ولا الذين يرجعون للأزهر في إندونيسيا وماليزيا
أضحوا مصريين بالولاء، فلماذا يراد للشيعة وحدهم أن يكونوا استثناءاً
ويشكك في انتمائهم القومي والوطني لمجرد التقائهم مع الإيرانيين في
الدين والمذهب؟!
*عميد الدراسات العليا في الجامعة
الإسلامية – لندن
regicis@yahoo.com |