صباغو الأحذية: الطين والغبار والمطر مصادر مهمة لأرزاقهم !!

تحقيق: أنمار البصري

   

  مهنة لاتتطلب رأس مال كبير وتكسبك في ساعات مبلغا يوميا مناسبا

شبكة النبأ: أتذكر الآن بوضوح طاغ تلك الحادثة التي حدثت لي بصباي في صباح شتوي بالغ الصفاء عندما نهضت من فراشي مبكرا ووجدت أمي وقد حضرت لي ماء دافئاً وقطعة من صابون الرقي نوع (غار الحسني) ودعكت وجهي ونظفته أكثر من مرة بالماء الدافئ والصابون المعطر وذهبت الى مدرستي فرحانا طليقا كطير وفي الإصطفاف المدرسي فاجأني المعلم أمام المصطفين كلهم عندما بدأ يدقق في هيئات الطلاب ونظافة وجوههم واحداً تلو الآخر وعندما وصل إلي توقف قبالة وجهي تماما وأخذ ينظر إلي بإمتعاض شديد ثم سألني بصوت عالٍ وهو ينظر الى وجهي : ( لماذا لم تنظف وجهك هذا اليوم ؟) وعندها أقسمت له بأنني نظفت وجهي، كرر سؤاله بصوت أعلى وهو يكز بأسنانه وينظر الى وجهي الذي رحت أتحسس نعومته ونظافته وأنا مندهش من إصرار المعلم ولم يكن عندي سوى الجواب نفسه، عند ذاك قال لي وهو ينظر الى وجهي: ( أنا أقصد وجهك الثاني ) وهبط ببصره الى الأرض وأشار بكفه نحو حذائي الذي كان مكسوا بطبقة من الغبار وبقع من الطين المبلل، ومنذ ذلك اليوم وأنا أشعر أن لي وجهان أحدهما يلمع في الجزء الأسفل من جسدي والآخر يسطع عند قمته!!.

   مواسم تلميع الأحذية:

   قلما لا تخضع المهن لقانون تعاقب الفصول في ازدهارها وضمورها ومنها هذه المهنة التي نتحدث عنها اليوم حيث تزدهر في الشتاء عندما يتواصل هطول الأمطار وتكثر كتل الطين في الطرق الرئيسة وفي الشوارع والأزقة حتى يصعب التخلص منها عندما تعلق بأحذيتنا وتبقعها بغض النظر عن لونها او درجة لمعانها ونظافتها عند ذاك ليس امامنا سوى اللجوء الى ملمِّع الأحذية الذي ستجده أمامك بلا عناء كبير حيث يعيد الى حذائك لونه الحقيقي ويضفي عليه لمعانا هو ليس لونه اوشكله الطبيعي واذا صح قول (المعلم سابق الذكر) فإنك مقابل مبلغ زهيد ستستعيد لمعان (وجهك الثاني) بعد ان لطخته بقع الطين وكسته طبقة الغبار الأسود وسوف يتحقق في مظهرك المثل الذي يقول (هندامك نصف شخصيتك) وعندما سألت أحد العاملين في هذه المهنة وهو شاب يناهز العشرين عن (مغريات مهنته ) فأجاب: إنها مهنة لاتتطلب رأس مال كبير هذا أولا ويمكنك في ساعات قليلة أن تكسب منها مبلغا يوميا جيدا خاصة في أيام المطر والعواصف الترابية التي تزول بسرعة كما انها مهنة لاتتطلب حركة الجسد كلة بل اليدين فقط علاوة على انك لاتجد منافسة شديدة عليها كما يحدث في المهن الأخرى .

   وعندما سألت عامل آخر عن الوقت الذي تبور فيه مهنتهم أجاب: ( الصيف غالبا مايكون موسم كساد هذه المهنة اما موسمها الذهبي فهو الشتاء أما في أوقات النهار فغالبا مايكون الصباح مع بداية الدوام هو ذروة العمل في هذه المهنة وكذلك (العصريات اللطيفة عندما يخرج الشباب للنزهة والتبضع وغير ذلك) .

    فرشاة مليونية :

   وأنت تتابع عمال هذه المهنة سيلفت نظرك ان نسبة كبيرة منهم هم من الصغار الذين تنحصر أعمارهم بين (16)عاماو(12) عاما او أقل أحيانا وليس جديدا ان نستنتج بأن الحروب والسياسات الأقتصادية الطائشة للنظام السابق هي السبب الأهم الذي يقف وراء ذلك وعندما لحظتُ كفا صغيرة تمسك بصعوبة بفرشاة تلميع كبيرة الحجم دنوت من الصبي الذي توردت وجنتاه فرحا وهو يظن أنه أمسك بزبون جديد قبل ان ينتهي من الزبون الذي  بين يديه وعندما انتهى من زبونه الأول دق لي بفرشاته الكبيرة على الدكة الخشبية كي أضع عليها حذائي ليباشر بالتلميع لكنني خذلته عندما قلت له لاأريد ان ألـِّمع حذائي فصاح بصوت منـزعج ( وماذا تريد، صارلك ساعة واقف فوق راسي) فسألته كم ثمن هذه الفرشاة الكبيرة، ضحك مني وطوَّح بذراعه في الهواء ساخرا وقال(هذا مو شغلك)عندها وضعت قدمني اليمنى فوق دكته الخشبية فأحمر وجهه فرحا وأجابني على الفور بأن فرشاته ألمانية الصنع أصلية (وشعرها ألماني أصلي) وسعر الفرشاة الجديدة منها يصل الى ربع مليون دينار !!.

   الفلاحون وصباغوا الأحذية:

   بين أكثر من عشرة صبيان كان يجلس رجل ناهز الأربعين من عمره يتوسط هولاء الصبية المنشغلين بعملهم في تنظيف ما بين أيديهم، كان يتوسطهم بهدوء وسيجارته بين شفتيه تلمع جمرتها وهو أقل من يعمل في هذا النسق المتراص بإنتظام لأنه كما يبدو غير قادر على العمل المتواصل وعندما دنوت منه أشار لي أن أذهب نحو صبي آخر غير انني بادرته بالتحية وقلت له الأفضل ان تبحث لك عن مهنة تناسب عمرك وصحتك، فقال : ( هذه هي أنسب المهن لمن هم مثل حالي) وعندما سألته عن رزقه قال نحن حالنا حال الفلاح أوالغنام كلانا ننتظر هطول المطر بفارغ الصبر وقهقه عاليا ومعه أيضا قهقه الصبية الذين واصلوا ضحكم من غير ان يفهموا سبب الضحك.

   إبتعدتُ عن جمهرة المنظفين وأنا أتطلع في شاشة ذاكرتي لمشهد الفرشاة التي تدور أتوماتيكيا في الفنادق والدوائر والأماكن الخدمية والشوارع، عشرات من هذه المنظفات الأوتوماتيكية التي ما أن تحط حذاءك قريبا منها وتضغط على زر التشغيل حتى تبدأ بالدوران والتنظيف والتلميع على حد سواء، كل هذا كنا نراه في بعض الأفلام أو الشاشات السينمائية وغيرها أما على أرض الواقع فهذا الأمر يبدو مؤذيا لعمال صبغ الأحذية أذ انه سيقطع أو يقلل من أرزاقهم، نظرت الى السماء التي تلبدت بكتل متناثرة من الغيوم وحدست ان الرزق الوفير قادم لامحالة لمن يعتمد في رزقه على هبات السماء.

شبكة النبأ المعلوماتية -الاحد  5  /شباط /2006 - 6/محرم الحرام/1427