طلاب مدى الحياة في جامعة نمساوية لا ضوابط فيها

الداخل إلى جامعة فيينا مفقود والخارج منها مولود. هذا هو حال معظم من التحق بإحدى كليات جامعة العاصمة النمساوية، سواء كان اسمه ماركوس أو محمود أو سينغ أو ناريجان. أي بغض النظر عن جنسيته أو هويته. فالغالبية المطلقة من طلاب الجامعات في فيينا يمضون «دهراً» وهم مرابطون في قاعة المحاضرات أو على عتبة باب المكتبة أو في أحد المقاهي المتاخمة للكلية، على الأرجح.

ومع اقتراب حلول الفصل الدراسي الجديد بعد أيام، يدخل ماركوس عمر الثالثة  والثلاثين وعامه الـ15 في كلية الطب. وكذلك هي حال محمود الطالب في فرع هندسة الكهرباء منذ زمن بعيد. أما سينغ الفتاة الصينية التي التحقت بفرع الاقتصاد قبل شهور عديدة، فهي من حينها لم تتزحزح من مكانها في قاعة المحاضرات إلا لأمر طارئ! في حين ما زال ناريجان يتلمس خطواته عبر متاهات كلية الطب مسترشداً بتجارب غيره من الزملاء المعمرين القدامى!.

الغريب في الأمر أن معظم الطلبة لا يشعرون بأن الزمن توقف بمجرد أن وطأت أقدامهم أرض «الحرم» الجامعي، إذ يبدو أنه أمر عادي جدا أن تستغرق فترة الدراسة زمناً طويلاً وأن يتأخر الطالب في التخرج عن المعدل «الطبيعي» المعهود في دول أخرى بسنوات عدة، بيد أن إقناع من لم يخض معترك الدراسة في أحد كليات جامعة فيينا بأن«المماطلة» في الدراسة محكومة بالنظام الدراسي المعقد، أمر صعب، خصوصاً الذين يترقبون من على بعد تخرج أبنائهم و بناتهم بأسرع وقت.

الأمثلة الدالة على أن «ثمة» شيئاً ما غير طبيعي في النظام الدراسي النمساوي كثيرة. والواقع أن أسلوب التعليم المتبع في النمسا مبني في الأساس على زرع مبادئ الاعتماد على النفس وتحميل الطالب المسؤولية في شكل قوي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن النظام الدراسي يمنح الطالب قدراً كبيراً من الحرية سواء في ما يتعلق بالفرع الذي ينوي الالتحاق به أم من جهة اختيار المواد، إذ أن التسجيل في كلية الطب أو الهندسة على سبيل المثال،غير مقيد بالمعدل الذي تم تحصيله في الثانوية العامة أو مرهون بالتوجه العلمي أو الأدبي خلال السنوات المدرسية الأخيرة.

أما في ما يتعلق باختيار المواد، فهناك مواد إجبارية وأخرى اختيارية وبذلك تتاح للطالب فرصة تخطيط جدوله الدراسي بما يتواءم واهتماماته ومخططاته المستقبلية.

و كثيراً ما تطرح المادة الواحدة من زوايا عدة بحسب «توجه» المحاضر أو من منطلق خبرة الدكتور وتركيزه على محور يتخصص فيه، فضلاً عن توزع المحاضرات على ساعات النهار: صباحا لمن يعمل مساء، ومساء لمن «يسهر» حتى الصباح.

ولعل النقطة الأهم من بين هذا كله أن جامعة فيينا لا تعترف بقانون «الاستنفاذ» فلا تفرق بين طالب ودع مرحلة الشباب قبل أكثر من عقد من الزمن وبين آخر لم يخضها بعد!

وتشجع جامعة فيينا على الاستقلالية و ترفع لواء «الفرد» شعاراً لها فلا تتدخل أبداً في الشؤون الشخصية الخاصة «بزوارها» ولا تثقل عليهم في الاستفسار عن أسباب الغياب أو الحضور كما أنها لا تحاسبهم على عدم إتمام النصاب اللازم من المواد المفروضة عليهم خلال الفصل الدراسي.

هذا إضافة إلى أن الالتحاق بالجامعة كان حتى فترة قريبة شبه مجاني.

وتبدو هذه السمات للوهلة الأولى ايجابية اذ تشجع الإقبال على العلم و الولوج في متاهاته مع مراعاة الظروف المادية والاجتماعية لجيل الشباب من ناحية، كما أنها من المفترض أن تكرس «الإحساس بالمسؤولية» والاعتماد على النفس مع توسيع الأفق ودعم القدرات الشخصية من ناحية أخرى. وطبقاً لهذه الركائز يفترض أن ينتقي الطالب تلك المحاضرات التي تحاكيه وأن ينكب على حلقات البحث التي تنميه ساعياً إلى التوفيق بين رغبته في نيل الشهادة العليا والحصول على الخبرة العملية من خلال العمل إلى جانب الدراسة. غير أن الواقع يعكس صورة مغايرة لا تتفق مع الأهداف التي أراد مؤسسو الجامعة و القائمون عليها تحقيقها، إذ تشير الإحصائيات إلى تدني نسبة المتخرجين مقابل عدد المنتسبين إلى الجامعة. كما تظهر أنه قليلين أتموا رحلتهم الدراسية في زمن «معقول» نسبياً.

وبطبيعة الحال فإن فترة الدراسة تتخللها مراحل صعبة هي التوفيق بين إلحاح الوالدين والتماشي مع الاتجاه العام السائد.

فأبرز عادة سيئة تنتشر بين الطلبة هي «التأجيل» ومردها عوامل عدة. أولها مجانية التعليم التي ألغيت قبل وقت قريب وغياب الرقيب، ونظام الامتحانات «الغريب». فإذا ما قرر الطالب أخيراً بدافع شخصي أن يقدم امتحاناً فإن الإحساس بالخوف والإحراج قد يعتريه من فكرة المثول أمام «لجنة تحكيم» تشمل الأستاذ الجامعي المختص وجمهوراً عريضاً جاء للاستماع إلى هذه الجلسة، لأن الامتحانات تجرى بشكل شفهي وهي مفتوحة للملأ والعامة لحضورها، تدفع بالكثيرين إلى إرجاء الموعد إلى أجل غير مسمى، وخصوصاً وأن الطالب يعرف ان احداً لن يحاسبه على عدم تقديم امتحان واحد خلال الفصل الدراسي كله!

أساتذة الجامعة من جهتهم يقومون هذا النظام التعليمي على أنه متقدم وأن الطالب الجدي و الطموح يدرك كيفية انتهاز الفرص المتاحة أمامه من خلال نظام «مرن» لضرب أكثر من عصفور بحجر من دون إبطاء أو مماطلة.

والخلاصة هي أن الرقيب الوحيد الذي قد يحاسب الطالب، هو إما طموحه أو «الضمير» أو «الصحوة المتأخرة» التي تنتاب كثيرا من الطلبة بعد سنوات من بداية انخراطهم في «المؤسسة» الجامعية.

كثيرون انتابتهم هذه الصحوة. ولا شك في أن من يصل إلى نهاية المطاف يشعر وكأنه بعث من جديد، إحساس يدفع بالكثيرين إلى خوض غمار التجربة ثانية»!

شبكة النبأ المعلوماتية -الثلاثاء 27/كانون الاول/2005 -  24/ذي القعدة/1426