لم يعد الحديث عن الديمقراطية وإيجابياتها وضروارتها مطلوبا، لأنه
حديث حقبة طويت نظريا على الأقل، الكلام يجب أن يدورحاليا في تصنيف
الديمقراطية ذاتها، لنرى إلى أية ديقراطية نحن سائرون، فهناك ديمقراطية
رديئة (هشة)، وأخرى صلبة، والديمقراطية غير الهشة تطلق على الإنظمة
الديمقراطية الدستورية التي تعيد أنتاج ذاتها بالإحتفاظ بمقومات
الديمقراطية (كالتعددية ومكوناتها)، وتضمن إستمرارية إعادة أنتاج
مقوماتها، وتنجح في دمج العناصر المنتجة الجديدة من: مطالبات، أفكار،
كوادر، أحزاب، حركات ومؤسسات في العملية السياسية اللاحقة، وكلما كان
النظام السياسي كذلك، وكان أكثر إقتدارا في الإدماج المذكور، وغيره
كإدماج المعارضين الجدد.
فالإعتراف بحتمية التعددية لم يعد كافيا، كما أن مجرد إحترامها لم
يعد مجديا لإرساء ديمقراطية مستدامة وغير هشة، بل الأمر يتطلب أولا:
إنفتاح العملية السياسية على جميع شرائح مكونات النسيج الإجتماعي، أي
انفتاحها على الجميع من أفراد وكيانات قائمة، والإحتفاظ بالتنوع
والتعددية القائمة ثانيا، والقدرة على إعادة إنتاج التعددية بتواصل
ثالثا، وعلى فسح المجال لمكونات التعددية الجديدة الوليدة للمشاركة
والتنافس في العملية السياسية رابعا، وعلى دمج المعارضين والمحتجين
الجدد في العملية السياسية اللاحقة، فبعد كل عملية سياسية او انتخابات
تستنفذ طاقات، وتسقط برامج وخطط وأفكار، وتنكشف ثغرات، والرفد بالجديد
لابد منه، وتبرز حركات ورموز ونظريات ومعارضات
واصطفافات جديدة، وتبعا لذلك وغيره تتغير الإرادة العامة، فلامناص
من فهم ومتابعة ورعاية التغييرات المتناوبة لإرادة المجتمع العامة بين
مرحلة واخرى، للوقوف على تغييرات الإرادة العامة وخياراتها ومعارضتها،
لدمجهافي العملية السياسية أفكارا، ورموزا، وأحزابا، و..، وبإختصار:
الديمقراطية الدستورية المستدامة تضمن ودستوريا إنفتاح العملية
السياسية على جميع مكونات التعددية القائمة والقادمة مستقبلا، فهي
لاتحتفظ بتعدديتها فحسب، بل تعيد إنتاجها، وتنجح في دمج المعارضين
والمحتجين في العمليات السياسية القادمة، هكذا تعيد الإنظمة
الديمقراطية غير الهشة إعادة إنتاج ذاتها، وتصبح مستدامة، ومن هنا يتضح
خطأ النظر إلى فوز أحد المتنافسين أو مجموعة
من المتنافسين في أي عملية سياسية معينة بانه خسارة الأخرين، وبناءا
على هذه النظرة غير السليمة (مفهوم المجموع الصفري للعملية السياسية
الواحدة)لابد من المسّ بمحور الديمقراطية غير الهشة،وأعني المس
بالإنفتاح على الجميع في الحاضر والمستقبل في الإطار المتقدم، وبالتالي
اللجوء
إلى التهميش أو الإقصاء أوالحذف أو التسقيط أو التجاهل بنسبة أو
بأخرى، بشكل، أوبأخر،مما يلوذ به منْ ضاقت به السبل الديمقراطية، ويرى
هوامش البقاء أصلا، أوالبقاء بالحجم القائم ضيقة، وذلك يتسبب في هشاشة
الديمقراطية وإخفاقها.
لبنان جرّب الديمقراطية الهشة،التي تنسب أوزارها زورا إلى تعدد
الديانات والطوائف البريئة تماما من تجنييد البعض إنتمائه المذكور
لأهداف ضيقة وسياسية وقصيرة الأمد.
فهلا نعيد النظر في محاولات التهميش والحذف التي بات البعض يصر
عليها مع التحضير للإنتخابات العراقية القادمة ؟
التهميش وكما هوالحذف والتضخيم مرفوض جملة وتفصيلا سواءا كان ذلك
بين مكونات الشعب العراقي (المكونات القائمة والقادمة)، أو بين شرائح
أي مكون من مكوناته (الشرائح القائمة والقادمة)، لأن التعددية والإشراك
والمشاركة والتنافس والتداول السلمي والحلّ الوسط وتمثيل الإرادة
العامة التي تتجدد بإستمرار من مقومات الديمقراطية، طبعا الى جانب
القدرة على دمج المعارضة التي تولد، وولادتها طبيعية بعد كل مرحلة من
مراحل العملية السياسية، ومايتبعها، ولذلك وغيره من الأسباب.
يقترح الخبراء - ومنهم س. ن. أيزنشتات - لإستمرار الإنظمة
الديمقراطية شروطا أهمها:
أولا: إمكانية أن يتوافرللقوى الفاعلة المختلفة الموارد والسلطة في
المجتمع، للدخول في اللعبة السياسية، والإستمرار فيها.
ثانيا: صياغة قواعد اللعبة بما في ذلك مايضمن الإلزام والإلتزام
بتلك القواعد.
ثالثا: البناء المصاحب للمجالات العامة بصورة عادلة.
بذلك يمكن مساعدة المكونات والشرائح للإبتعاد من مفهوم المباراة
الصفرية غير الصائب في العملية السياسية، كي لاينظر الى فوز أحد
المتنافسين أو مجموعة من المتنافسين في أي عملية سياسية معينة بانه
خسارة للآخرين، لأن الخسارة مؤقتة، والعودة مضمونة، بعد إعمال مقاربة
جديدة يقوم بها الخاسر بين سلوكه وبرنامجه وخطته واستراتيجيته من جهة،
وليقوم بها الخاسر بين سلوكه وبرنامجه وخطته واستراتيجيته من جهة،
والإرادة العامة للمجتمع، ومن دون ذلك ستتأكل شرعية النظام الديمقراطي
الدستوري، ويهجر المجتمع الإنتخابات والإقتراع وتنخفض مستويات المشاركة
لتصل الى دون الخمسين في المائة في بعض الدول التي انتقلت الى
الديمقراطية قبل قرون...، لذلك تم تصنيف الإنظمةالديمقراطية الدستورية
الى حديثة (غير هشة)، وأخرى قديمة هشة، وعاد إضفاء الشرعية المتواصل
الى الإنظمة الديمقراطية الدستورية بحثا محوريا وهاما ومصيريا
للديمقراطيات، علما ان إقامة الأنظمة الديمقراطية الدستورية وإصدار
الدساتير لوحدهما لا يكفلان بصورة الية واتوماتيكية ذلك *، بل يستدعي
ضمان ماتقدم في المحاور الثلاثة المتقدمة في جميع التشريعات (بما في
ذلك مايرتبط بالنظام الإنتخابي) والخطط التنموية الشاملة (بما في
الإقتصاد والثقافة والسياسة والإعلام والتعليم والإدماج والإندماج
والموازنات)،للحيلولة دون احتكار أي مجموعة اوفريق للموارد الأصلية
ومصادر القوة، لكي يتسنى للتعددية، وتعدد مراكز القوى أن يبقى قائما،
بل ويعاد إنتاجه بتواصل، ومن ثم دمج أعضائه الجدد في النظام.وإذا كان
ذلك في العراق الجريح بحاجة الى خطة طويلة الأمد وعمل مشترك دؤوب
للنظام الديمقراطي الدستوري الفتي:
ماهو المطلوب حاليا في دائرة الممكن مع شد الأحزمة المبارك تحضيرا
للإنتخابات العراقية القادمة ؟
يبدو لي تحرك الجميع في إتجاه الديمقراطية غير الهشة، وأول خطوة في
الإتجاه الحيوي المذكور تكريس فتح باب العملية السياسية، لكل من يلتزم
بها، والانفتاح على جميع مكونات الشعب العراقي على أن يشمل ذلك كل
شرائح المكون الواحد، والسعي الحثيث والجاد لدمج أكبر عدد ممكن من
المكونات في الإنتخابات القادمة، وبما يشمل الغائبين والمتغيبين،
وبصورة خاصة منْ انتقل من الشعب الى صفوف المعارضة (معارضة المشاركة في
الإنتخابات) لإرهاصات وتداعيات وتحديات وتبعات المراحل السابقة
للعملية السياسية، وعلى رأس ذلك التقدم المحدود في السياسات المواطنية
والخدمات والأمن، وكل ذلك يستدعي تلقي أخبار عن محاولات لتوسيع
المشاركة، وضمّ كيانات اخرى الى التحالفات السابقة لخوض الإنتخابات
القريبة القادمة، لا العكس كما تشير بعض الأخبار والتقارير التي نأمل
أن تكون أولية، او غير مؤكدة.
...................................
* للتفصيل يمكن مراجعة سلسلة: منْ يضمن الديمقراطية
؟ المنشورة على الموقع.
معهد الإمام الشيرازي الدولي
للدراسات - واشنطن
siironlin.org |