الاستشراق والتقويض النقدي للاستعمار

كان بإمكان المفكر الفلسطيني البارز ادوارد سعيد أن يكتفي بدور ناقد الادب ويلمع نجمه ويعيش حياة هادئة بعيدا عن القلق ولكنه اختار بدراساته الغزيرة ذات النظرة الموسوعية تحويل النظرية الثقافية في الربع الاخير من القرن الماضي منذ أثار قلقا لم ينته حول قضية الاستشراق.

ففي عام 1978 فوجيء الدارسون بكتابه (الاستشراق) ومنذ تلك اللحظة تحول مسار هذا العلم حيث تبين أن الشرق فكرة أقرب إلى أسطورة خلقها خيال الغرب عن عدو مفترض يحمل كل الغرائب والمتناقضات. ثم عاد سعيد في كتب أخرى مثل (تغطية الاسلام) ليشير إلى التعاون غير البريء بين الاستعمار والمستشرقين لدرجة يندر معها وجود خبير من خبراء الاسلام لم يكن مستشارا لحكومة بلاده مستشهدا بالمستشرق الهولندي سنوك هنجرونيي "الذي استغل الثقة التي أولاه المسلمون اياها في تخطيط وتنفيذ الحرب الهولندية الوحشية ضد أبناء شعب أتشيه المقيمين في سومطرة."

وبكثير من الايجاز لخصت مجلة (ألف) السنوية التي تصدر عن قسم الادب الانجليزي والمقارن بالجامعة الامريكية بالقاهرة مشروع سعيد (1935 - 2003) في كلمات قليلة اذ حمل الغلاف عنوان (ادوارد سعيد والتقويض النقدي للاستعمار).

والعدد الذي أشارت افتتاحيته إلى أنه مخصص للاحتفاء بسعيد بمناسبة الذكرى السبعين لمولده يسعى إلى الاحاطة بفكره "مع التركيز على اسهامه النقدي في تقويض الهيمنة والاستعمار" ولهذا خلا من التكريم المجاني وصولا إلى التحاور النقدي مع تراث الرجل الذي وصفته المجلة بأنه مثقف عالمي مسكون بهموم المقهورين.

والعدد الذي بلغ أكثر من 560 صفحة ضم دراسات بالعربية والانجليزية لكتاب منهم أستاذة النقد المقارن العراقية فريال جبوري غزول رئيسة تحرير المجلة والمصريان ابراهيم فتحي وأنور مغيث ورضوى عاشور ومنار الشوربجي والفلسطينيان فيصل دراج ومريد البرغوثي.

وكان موفقا أن تسبق الافتتاحية كلمة لسعيد يشدد فيها على دور الناقد اذ يقول "انني أتعامل مع النقد بجدية شديدة تصل الى درجة الايمان بأنه حتى في خضم معركة يقف فيها الفرد بما لا يدع مجالا للشك بجانب أحد أطرافها يجب أن يكون هناك نقد ذاتي فلابد من وجود وعي نقدي كي تكون هناك قضايا ومشاكل وقيم وحتى حيوات نناضل من أجلها. فينبغي على النقد أن ينظر لنفسه بوصفه عنصرا يثري الحياة وفي حالة تضاد بناءة مع كل أشكال الطغيان والسيطرة والاستغلال فأهداف النقد الاجتماعية هي المعرفة اللاقسرية وغرضها الحرية الانسانية."

ونشرت المجلة ترجمة لمحاضرة ألقاها سعيد في الجامعة الامريكية بالقاهرة عام 1999 حول الحرية الاكاديمية في الجامعات التي قال إن توجها محافظا يسيطر عليها في كثير من الدول "وهذا أمر خطير... تغير مناخ الجامعة من الحرية إلى التكيف ومن العبقرية والجرأة إلى الحذر والخوف ومن المضي في اتجاه المعرفة الى الحفاظ على الذات."

وأشار إلى هجرة كثير من الموهوبين في "استنزاف مضن لعقل العالم العربي" بعد حدوث ما وصفه بالتنازلات البالغة في العقود الثلاثة الماضية وما لذلك من أثر على حرية البحث التي يقتلها القمع السياسي المدمر للتفوق الفكري والاكاديمي.

وتحت عنوان (ادوارد سعيد والقضية الفلسطينية) استعرض الباحث المصري حسن نافعة رؤية سعيد للصراع العربي الاسرائيلي والعوامل التي أسهمت في تكوين هذه الرؤية مشيرا إلى أنه لم يكتب مباشرة عن هذه القضية الا بعد حرب 1967 التي انتهت باحتلال اسرائيل سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية وقطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية العربية اذ "يبدو أن سعيد عثر (في تلك المرحلة) على هويته المفقودة."

وأضاف أنه اختار دراسة الادب الانجليزي والمقارن انطلاقا من تلاؤم هذا المجال مع "تكوينه النفسي والعقلي فضلا عن أنه قد يكون المجال الانسب للولوج إلى عالم الثقافة الارحب."

وقال نافعة إن دفاع سعيد الصلب عن حقوق الشعب الفلسطيني لم يثنه عن رؤية "العدو بعيون انسانية وتفهم ما تعرض له اليهود من كوارث واضطهاد... ميز بوضوح تام بين الحركة الصهيونية وهي حركة سياسية عدوانية توسعية مغتصبة ومنتهكة للحقوق الفلسطينية وبين الشعب اليهودي الذي عاني الكثير من الاضطهاد وعاش أحداث المحرقة النازية.

"يرفض سعيد كل محاولة من جانب اسرائيل لاتخاذ هذه المحرقة ذريعة لتبرير سياستها الوحشية تجاه الفلسطينيين."

وكان سعيد أصدر كتابه الاول (جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية) عام 1966 عن الروائي البريطاني كونراد (1857 - 1924) ولكن شهرته طغت منذ كتاب (الاستشراق) الذي ظل مقترنا باسمه حتى رحيله رغم توالي كتبه ومنها (تغطية الاسلام) و/العالم والنص والناقد/ و/ما بعد السماء الاخيرة.. حيوات فلسطينية/ و/لوم الضحايا/ بالاشتراك مع الكاتب البريطاني كريستوفر هيتشنز و/الثقافة والامبريالية/ و/سياسة السلب.. الكفاح من أجل حق تقرير المصير الفلسطيني/ و/خارج المكان/ الذي يروي فيه سيرته الذاتية بين القدس والقاهرة والولايات المتحدة.

واستجابة لدعوة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات انضم سعيد إلى عضوية المجلس الوطني الفلسطيني في نهاية الثمانينيات دون انتماء لاي من الفصائل الفلسطينية الا أنه عارض اتفاق أوسلو بين عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اسحق رابين. وأصدر عام 1994 كتاب (غزة-أريحا.. سلام أمريكي) وفي العام التالي أصدر كتاب (أوسلو ر2. سلام بلا أرض).

شبكة النبأ المعلوماتية -الخميس 27/ تشرين الأول/2005 -  23/ رمضان/1426