عندما يبكي الجسد

د.اسعد الامارة*

  كلنا نعرف ان الانسان كائن متطور لا يستجيب للمواقف الحياتية المثيرة بمجرد رد الفعل الاستجابي بدون مشاعر وانفعالات تهز كيانه كما يحصل عند الكائنات الحية الاخرى ،فهو يستجيب ومعه الانفعال والاحساس بالموقف ، عندما اخضع علماء النفس السلوكيين الكائن الحي للتجريب بغية دراسة رد فعله وضبط استجاباته وفقا للموقف المفاجئ ،وجدوا ان الانسان على الاختلاف التام في ردود الافعال والانفعالات ومستوى التأثر عن الكائنات الحية الاخرى ،وهي حقيقة يدركها كل من يدرس الانسان في ظاهره وباطنه، وان ما يميز الانسان ايضا هو عنصر التفكير وتقييم الواقع ،وهو كما يعرف الجميع بانه احد وظائف مركزية الانسان في الذات ،وكلما كان الانسان متحضرا كلما كانت الابعاد تأخذ مديات اكثر،فالانسان الذي يعيش في حضارتنا الجديدة يرى ان الضغوط الحياتية باتت تشكل عبأ كبيرا على كاهله،فهو يعيشها يوميا لانها من افرازات الحضارة الجديدة وتحتم عليه هذه الحضارة ان يواكبها لاشباع طموحاته وآماله،ويسايرها لكي يتكيف معها حتى يكون انتماءه لمجتمعه الذي يعيش فيه متناغما منسجما،هذا الحال ربما لا يكون سمة واضحة في بعض المجتمعات الريفية او الاقل تحضرا حيث تسير وتيرة الحياة بمنوال اقل بطئا وبها من المثيرات اقل بكثير من مجتمعات التحضر ،ولكن سؤالنا :هل يؤجل الانسان في كلا المجتمعين استجابته الانفعالية ازاء المواقف الضاغطة ام انه يتفاعل معها بنفس الشدة؟

  اعتقد ان انسان اليوم في المجتمعات الواسعة والمدن الكبيرة ،يسير بخطوات متسارعة تزداد ردود افعاله بشدة عن ما تواجه سكان المدن الصغيرة او الارياف او بعض الدول التي لم تطأها بعض انياب الحضارة الجارفة والتصنيع والتكنولوجيا التي تتطلب ان يتعامل بردود افعال سريعة ،هذا من جانب ومن جانب اخر ان حضارتنا المتسارعة تطلب منا الاستجابة الانفعالية السريعة والا فأن هناك انشقاقا سيحدث داخل نفس الانسان، فينشأ الصراع بين الموقف الضاغط بكل ابعادها ومتطلباته  وبين برودة الاستجابة ،لهذا لابد من تسارع الاستجابة لكي يحدث انسجام بين الخارج والداخل.

 يقول الكاتب هنري مودزلي ان الحزن الذي لا يجد منفذا له في الدموع ،قد يجعل احشاء الجسم تبكي.وهو نفسه المرض حينما تبكي الاحشاء دما يحدث السلوك المرضي ،ومحور هذا السلوك هو الانفعال ،فالانفعال يقابل نفسيا حالة الاحباط الذي يقود الى تدهور عمل وظائف الانسان او يحد من قدرتها على ممارسة عملها بشكل سوي،وهو المدخل الاولي لحدوث المرض النفسي الجسمي،لانه يتكون من تراكم للانفعال على المستوى الجسدي دون ان يصعد الى الوعي ويتبلور على شكل رد فعل انفعالي يتناسب مع الحدث ،او على شكل الفاظ او مفاهيم مشحونة لكي يستعيد بعد اطلاقها التكيف المفقود.هذه الحالة وحالات اخرى تتنوع مع تنوع العلاقة بين الاضطرابات النفسية من ناحية وبين الانفعالات الجسمية من ناحية اخرى ،وفي جميع هذه الحالات يصعب النظر الى اي من الحياة النفسية او الحياة الجسمية للفرد كشئ مستقل بنفسه وغير متصل بالاخر ،فهذا الاستقلال غير موجود،والاعتماد النفسي على الجسم او بالعكس بشكل متكامل متفاعل هو الذي يشكل مبدأ لا يمكن اغفاله. اليس الانفعال الذي يضرب الانسان يجد صداه في الاحشاء ،الم يلاحظ الناس ان شعورهم بالقلق النفسي ينتج عنه امساك شديد او اسهال شديد، وهو ما يحدث في بعض الاحيان عند سماع خبر مؤلم مفاجئ او انفعالات بعض الطلبة في مواجهة الامتحان ،وحالة الامساك بدورها تزيد من حدة الشعور بالقلق ،وهذه الزيادة تزيد من حالة الامساك فكأنه تنشأ احيانا في مثل هذه الحالات حلقة مفرغة لابد من قطعها في نقطة ما حتى يتمكن من حالتي الامساك والقلق في وقت واحد. الا يحيل الغضب احشاء صاحبه الى هشيم ويجعل سوء الهضم عاملا مميزا له،او ارتفاع ضغط الدم او تسارع ضربات القلب حتى تجعل الجسد يتعرق ويتصبب عرقا ،ان هذه الاضطرابات السيكوسوماتية ،جسمية الاعراض نفسية المنشأ،فجميع الناس الذين يعانون من هذه الاضطرابات يشكون من اعراض بدنية مختلفة.انها حالات التورط الانفعالي في الاعضاء والاحشاء حتى تضرب المعدة لتصيبها بالقرحة او الربو او القصبات او القولون.

     ان الجسد حينما يشكو بسبب اهتزاز النفس انما يعبر عن عدوان لا شعوري مكبوت ،وعادة ما يصاحبه شعورا بالذنب واعتمادية بالغة تولدت منذ الطفولة ،وكثيرا من المرضى نرى انهم عانوا من مشكلات في طفولتهم خلال السنتين الاولى من عمرهم،فبالغوا بعد ذلك في سن الرشد بالوسوسة الخاصة بالنظافة ،خصوصا مرضى القولون او القولون العصبي ،فهم على درجة عالية من الدقة والنظام والصدق والاخلاص مع بعض البخل.

   خلال مسيرة حياتنا في هذه الدنيا التي يتعامل كل منا حسب اسلوبه او طريقته او الكيفية التي يحل بها اشكالات الحياة،نلاحظ ان اصحاب الشخصيات المختلفة  او الاكثر تعرضا لانفعالات الحياة ولم يجدوا المنفذ الطبيعي الذي يخلصهم من تراكم هذه الانفعالات ،هم الذين تكون حالات الخلل في سلوكهم ومشاعرهم ظاهرة في تصرفاتهم وفي طريقتهم في التوفيق بين انفسهم وبين البيئة،ولا نستبعد بمعنى ادق هؤلاء البعض من الناس الذين نصفهم في احيان كثيرة بانهم لا يحسنون التصرف،ولا يستطيعون ايجاد المنفذ الصحيح لتصريف الشحنات قبل ان تتراكم بعد ذلك ،فتكون استجابتهم بطيئة ولكن شدة الانفعال اقوى على اجسادهم ، دون ان يفرغ هذه الطاقة فيحدث الصراع وهو في الاساس عدوان موجه ضد احشاء الجسد،وتكون النتيجة هي حالة من الانفعال الجسدي المزمن الذي لا يؤدي وظيفة تكيفية ولا يفرغ في فعل او تفاعل مع موضوع او شخص يقترب منه نفسيا ،فيستمر الجسد في حالة استعداد مزمن دون تفريغ ،فلا هو يفعل ولا هو يستريح انما يستمر مشدودا حتى ينشأ لديه الاضطراب السيكوسوماتي ويستهدف اضعف جزء في الجسد،ايا ً كان موقعه ،المعدة ،او القولون او الجلد او الامراض الاخرى.

*استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

شبكة النبأ المعلوماتية -الأربعاء 25/ تشرين الأول/2005 -  22/ رمضان/1426