لقد تغيرت اليوم صورة العلاقة مع الآخر, ولم يعد الآخر ذلك الذي
نستطيع أن نفصل أنفسنا عنه, ونضع بيننا وبينه حواجز ومسافات.
فقد أصبح هذا الذي نصطلح عليه بالآخر حاضراً معنا, وفاعلاً ومؤثراً
في حياتنا ومحيطنا وبيئتنا, في ظل عالم شديد الترابط والتداخل والتفاعل,
كما لو أنه في صورة قرية كونية تتصاغر باستمرار, وهذه هي الصورة
الافتراضية التي جاءت العولمة للإعلان عنها, والتبشير بها.
ومن هنا كان لابد من تجديد نظرتنا إلى الآخر, ومن التصورات والأفكار
التي تعيننا في إنجاز مثل هذه المهمة:
أولاً: في العلاقة مع الآخر نحن دائماً أمام قراءة مزدوجة, قراءة
نابعة من الذات, وقراءة نابعة من الآخر. بمعنى: لا يكفي أن نُحدد كيف
ننظر إلى الآخر ونتعامل معه, بل لابد أن نُدرك كيف ينظر الآخر إلينا
ويتعامل معنا.
فنظرتنا إلى الآخر تؤثر في طبيعة نظرة الآخر إلينا, كما أن نظرتنا
إلى أنفسنا هي الأخرى تُؤثر في طبيعة نظرة الآخر إلينا. وبقدر ما نحن
بحاجة إلى تصحيح نظرة الآخر إلينا, بقدر ما نحن بحاجة أيضاً إلى تصحيح
نظرتنا إلى الآخر. هذه هي القراءة الفعالة والمؤثرة في تصحيح العلاقة
والصورة بين الذات والآخر, أما القراءة الأحادية, والتي تكون من طرف
واحد, فإنها لا تستطيع أن تصل إلى ذلك الآخر وتُؤثر في قراءته, وتبني
جسور التعارف والتواصل معه.
ثانياً: إن الآخر ليس جوهراً ثابتاً, ولا يمثل حالة كلية, ساكنة
وجامدة, وإنما هو محكوم بصيرورة زمنية وتاريخية, يتغير فيها حال الآخر
وطبيعته من زمن إلى آخر, ومن طور تاريخي إلى طور آخر.
وبالتالي لا يمكن أن نفهم الآخر بالعودة إلى الماضي والتاريخ
والتراث, ونكتفي بهذا القدر من المعرفة, كما لا يمكن أن نكتفي بما
لدينا من معرفة جاهزة وحاضرة, ونعتمد عليها بصورة كلية وثابتة. لأن
الآخر في حالة تحوّل وتغير بحسب قوانين الصيرورة التاريخية, فغرب القرن
التاسع عشر مثلاً, وهو غرب عصر الأنوار, يختلف عن غرب النصف الأول من
القرن العشرين, غرب عصر الثورة الصناعية, والذي يختلف بدوره أيضاً عن
غرب النصف الثاني من القرن العشرين, غرب عصر الحداثة, وهكذا إلى غرب
القرن الحادي والعشرين, غرب ما بعد الحداثة.
وهذا يدعونا إلى أن نُجدّد من فهمنا ومعرفتنا بالآخر, حتى لا نقع في
إشكالية الصور النمطية الجامدة والساكنة في فهم الآخر. والحاجة إلى هذه
المعرفة, باعتبار أن معرفة الآخر هي جزء من معرفة الذات, وأن معرفة
الذات لا تكتمل إلا بمعرفة الآخر.
ثالثاً: إن الآخر لا يُمثل حالة واحدة, متحدة لا تقبل التجزئة
والتفكيك, وإنما يُمثل حالة متنوعة, تقبل التحديد والتصنيف, فهناك
الآخر الذي يتقدم ويتفوق علينا, بين من يتفوق علينا في ميادين المعرفة
والعلوم كالغرب مثلاً, وبين من يتفوق علينا في ميادين الصناعة والتقنية
كاليابان مثلاً, وبين من يتفوق علينا نهضةً وتقدماً بات يتجاوزنا
كالصين مثلاً.. إلى غير ذلك من نماذج وتجارب.
والنظر إلى الآخر في مثل هذه الحالات هو من أجل الوصول إلى تلك
المعرفة, وإلى ذلك التقدم والنهوض, ومحاولة الاقتباس والاستلهام منه,
والتثاقف والتذاكر معه, وهذا يعني أن الآخر يُمثل لنا حاجة حقيقية,
يدعونا إلى الانفتاح عليه, والتواصل معه.
(*) كاتب و باحث إسلامي سعودي
almilad@almilad.org |