وقف قطار العراق خلال قرن من الزمن في محطات مهمة اصطبغ به تاريخ
هذا البلد وترك بصماته على المشهد العراقي في مجالات عدة، وبعضها لازلت
قائمة الى يومنا هذا.
ومن تلك المحطات فترة قبل وبعد ثورة العشرين حزيران العام 1920،
فاجداد العراقيين وهم أغلبية سكان العراق أبلوا في الثورة الشعبانية
بلاءاً حسنا، كانت مقدمة لاستقلال العراق من الاحتلال البريطاني وتشكيل
اول حكومة وطنية بعد الانفكاك عن العهد العثماني الذي انفرط عقده على
يد الكماليين في العام 1924، والتي قالت عنهم السكرتيرة البريطانية
للحاكم البريطاني المسز بيل انهم: (دوخوا التاج البريطاني) وتعني
الاجداد الذي تصدوا للاحتلال البريطاني ووقفوا خلف المرجعية الدينية
لحماية الوطن وشعبه المسلوب الارادة في العهد العثماني وعهد الاتحاد
والترقي والمحتل من قبل عساكر التاج البريطاني.
كان من نتائج الثورة الشعبانية في العام 1920 ان تظافرت المساعي
لتشكيل الحكومة العراقية، وحار الاجداد في تعيين أول ملك للعراق بين
رغبات السيد طالب رجب النقيب في البصرة والشيخ خزعل في خوزستان ورغبات
الانجليز لتعويض فيصل الاول عن ملكه المنهار في الشام تحت وطأة البسطال
الفرنسي، ضمن اتفاقيات سايكس - بيكو، أو تعيين ملك من أبناء الأكثرية
المغيبة التي تاهت قياداتها في تلافيف الوطنية ومثلها العالية المضامين،
لكن رغبة الانجليز تحققت وجاء بقية الضباط من الجيش العربي والعثماني
وشبه التكنوقراط من خارج العراق مع فيصل الاول، وصار فيصل ملكا على
العراق ورفع السياسي علي البزركان في كربلاء المقدسة مقر قيادة ثورة
العشرين، علم أول حكم وطني معلنا بداية عهد جديد.
في محطة العشرين فضّل الاجداد ان يشتروا الوطنية وبلا حدود، في حين
غرس القادمون من الخارج واضرابهم في الداخل أسنانهم على رقبة الوطن
لئلا يفلت منهم بعد ان فقدوه في الحجاز وسوريا، وليخلفوا العثمانيين في
حكم العراق، وبذلك فقد الاجداد وأبناءهم الوطن على مذبح الوطنية،
وعادوا يعيشون الضعف وقلة الحيلة وهم اكثرية القوم كما كان حالهم في
العهد العثماني، ومن قبل ذلك، وفيما تحرك القطار بحكم الأقلية، ظلت
الاكثرية على رصيف المحطة بانتظار ان يأتي القطار ثانية.
وكلما ارتفع من بعيد دخان ظنوا ان القطار قادم ليأخذهم من محطة
الوطنية المتخمة بالواجبات فوق كواهلهم دون الحقوق الى محطة الوطن
المتوازن بالحقوق والواجبات، وعندما يقترب يضع البعض من الداخل وآخرون
من جيران العراق عارضا، فيتوقف القطار وهو تحت مستوى النظر دون ان يدنو
من المحطة او أن تعمد اياد خفية واخرى معلومة الى جره من خلف، ويكون قد
سحق في طريق القهقريا الآلاف بل مئات الالاف من العراقيين كما حصل في
الهبة الشعبانية في شباط- فبراير العام 1991، حيث توقف القطار في محطة
الناصرية دون ان يتجاوز المدينة نحو بغداد، لان جيران العراق وجدوا ان
القطار اذا ما وصل العاصمة سيزيل الحواجز والموانع التي وضعت امام
اكثرية العراقيين للعيش مع الآخرين كشركاء لا أجراء، فقطار التغيير اذا
تحرك على سكة الديمقراطية سيأخذ معه كل العراقيين ولا يبقي احدا
ويعاملهم سائقه كمواطنين من الدرجة الاولى دون ان يستأثر قوم بقوم،
قلوأ او كثروا، وهو استئثار دام في العهد الوطني ثمانية عقود، كان
لوطنية الأجداد الزائدة عن حدها دخل فيها.
لكن القطار في العام 1991 خرج عن السكة تارة اخرى، تاركا وراءه مئات
المقابر الجماعية، وهذه المرة بفعل رغبة الجيران لحرمان الأغلبية من
العيش داخل الوطن بأمان، وانتصارهم للخطأ الجاثم على صدر العراق.
وبعد عقد من الهبة الشعبانية وبعد ثمانية عقود من الثورة الشعبانية،
تحرك القطار من جديد، وسعى بعض الجيران الى وضع العصي تحت عجلاته، لكن
ارادة السماء كانت اكبر وحيلة النظام كانت أضعف، وانتقل الاحفاد من
محطة 1991 الى محطة العام 2003، ليدشنوا رصيفا جديدا يحملون معهم بذور
الوطنية ليبثوها فوق صعيد الوطن.
في محطة 2003 رغم وطنية الأبناء الذي وقفوا اسابيع في ام قصر يمنعون
القوات الاجنبية من أن تطأ بساطيلهم أرض الوطن، بيد أن الاكثرية بعد أن
حطت الحرب أوزارها بهروب القائد وجنده، قررت ان تستفيد من تجربة
الاجداد، فلا تتوقف عند محطة الوطنية ومثلها وتترك الوطن وشعبه من
جديد لأقلية سياسية تشتري بآيات الوطنية ثمنا قليلا، بخاصة وانهم لم
يكونوا طرفا في الحرب، فاشتروا الوطنية والوطن، وهو ما اغاض البعض
الذين وجدوا ان الوطن ضاع منهم فذهبوا يزاحمون الأبناء على ركوب موجة
الوطنية لعلّ الجيران ينتصرون لهم ثانية وثالثة حتى يعيدوا عقارب الزمن
الى ما قبل التاسع من نيسان – ابريل 2003.
ولأن الوطن صار من حق الجميع دون استئثار فئة على اخرى، وهذا ما لا
يريح من استأثر بالكل من دون وجه حق، فان المستأثر القديم راح يبحث عن
شركاء له من ابناء المقابر الجماعية يزين لهم محاسن الوطنية ومساوئ
الاحتلال ليجرهم الى صفّه مستغلا طيبتهم وحسن نواياهم، وكلما وصل قطار
الديمقراطية في العراق محطة متقدمة على طريق التغيير والبناء يدبج
المستأثر القديم القصائد الطوال انتصاراً للوطنية ويقيم للوطن خيم
المآتم وسرادقات النواح، على ان الظرف الذي يعيشه العراق اليوم، عاشه
بالأمس عشية تأسيس اول حكومة وطنية، فلماذا قبل اجداد هذا البعض
الانخراط في الحكم مستأثرين بالسلطة التي اقيمت تحت نظر الاستعمار
البريطاني، تاركين لاجداد الاكثرية التمتع بزهو الوطنية الفضفاضة،
ويستكثر على أبناء اجداد الاكثرية الانخراط في الحكم الجديد، وبناء
الوطن والاحتفاط بالوطنية معا؟!
ان القطار يتحرك وقد تجاوز محطات صعبة ومنها محطة انتخابات
الثلاثين من يناير – كانون الثاني العام 2005، لكن البعض أكثر من اقامة
سرادقات العزاء على الوطنية كلما اجتاز الوطن محطة بنجاح، ويتحرك
القطار بتؤدة نحو محطة التصويت على الدستور مقدمة للانتخابات القادمة
في كانون الاول – ديسمبر العام 2005.
ان سرادقات الوطنية والبكاء على الاطلال ليست اهم من صناديق
الاستفتاء والانتخابات، حتى وان فاق النحيب والبكاء فيها، دموع المحبين
على فقد الحبيب، فالوطن حيث أقلّك، لان الوطن الذي لا يقل المواطن ولا
يأويه ولا يظله واهل بيته ولا يرحم الكبير ولا يعطف على الصغير، ليس
بوطن كما يقول الامام علي عليه السلام: "ليس بلد أحق بك من بلد، خير
البلاد ما حملك" وان تفجر البعض وطنية الى قمة رأسه بغض النظر عن صدق
مشاعره أو كذبها، والوطن الذي لا أمان فيه ليس بوطن كما يقول الصدّيق
الأعظم بن ابي طالب (ع) (لا خير في الوطن الا مع الأمن والمسرّة).
فما يسوى الوطن اذا اشترى الاجداد الوطنية وتركوا الوطن لغيرهم
يسومون احفادهم سوء العذاب يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، ويقيمون
لهم في كل صحراء وبادية مقبرة جماعية؟ وعلى الأحفاد ان يتذكروا قول
الامام جعفر الصادق (ع): (اذا فقد الأمن من البلاد فالهرب الهرب)، وقد
هرب الآباء في الخمسينيات والستينيات وهرب أبناء الأبناء في السبعينيات
والثمانينيات والتسعينيات، فلماذا يراد لمسلسل الهروب ان يستمر وقد عاد
الوطن الى اهله يعامل الجميع بمقياس المواطنة الحقة!، ولماذا يراد
للأحفاد ان يشتروا الوطنية دون الوطن على طول الخط، اسوة بالاجداد
الذين كان من ثمار وطنيتهم أنهم ابعدوا خارج العراق وطردوا منه، وكان
شرط الاعادة او العودة، التنازل عن الوطن والوطنية معاً وعدم التدخل في
السياسة؟
ولم يفلح الشاعر حيث قال:
بلادي وان جارت علي عزيزة
واهلي وان ضنوا علي كرام
ولمّا كان جوهر الاسلام هو السلام والمحبة والوئام فقد صدق الرسول
الاكرم محمد (ص) عندما قال (وطني الاسلام)، فالاسلام الذي يعامل
المسلمين بمذاهبهم المختلفة كأخوة في الدين، ويعامل الأقليات بأطيافها
الدينية كأخوة في الخلق، هو الوطن الحقيقي، وصدق الشاعر عندما قال:
كل أرض بها الأسلام لي وطن
وحيث يذكر اسم الله تلقاني
اذا فقد المواطن الأمن والأمان في وطنه، فقد الوطن والمواطنة وان
تشبع وطنية وتثقف بها، لان الوطنية لا تغني عن الوطن شيئا، اذا غاب
الأمن وسادت الأثرة بصورها البشعة، وكما قال الامام جعفر بن محمد
الصادق (ع): "خمس خصال من فقد واحدة منهن لم يزل ناقص العيش زائل القلب،
فأولها صحة البدن والثانية الأمن والثالثة سعة الرزق والرابعة الأنيس
الموافق والخامسة الدعة) وكما قال جده إمام المتقين علي بن ابي طالب
(ع): "شرّ البلاد بلد لا أمن فيه ولا خصب" ، ومعلوم ان : "الخائف لا
عيش له" كما يقول الفاروق علي بن ابي طالب (ع)، ولهذا صدح قوله (ع)
وجرى مجرى الحكم والامثال: "نعمتان مجهولتان الصحة والأمان".
فالوطن في العراق أو في غيره يأتي عبر صندوق الاستفتاء والانتخاب،
والوطنية الحقة لازمة للوطن الحر، ووطن لا أمن فيه لا وطنية تعلو
جبينه، ولا شعب يسعد فيه، وصدق الامام السجاد علي بن الحسين (ع) عندما
قال: "أفضل قرّة أعين الولاة استفاضة الامن في البلاد" وفي عصر
الحريات، فان صوت الناخب هو الشهاب الثاقب الذي يرجم شياطين الاستبداد
والأثرة الباطلة، وصوت الناخب الحر مدعاة لاستفاضة الأمن في البلاد.
اقتراح: اشار احد العراقيين فقد عمه في المقابر الجماعية، ان يصار
الى نقل صدام حسين فيما لو حصل على البراءة من الجرائم المدان بها، الى
المحافظات التي ترفع صوره ليكون رئيسها في حكم الفيدراليات في العراق
الفيدرالي الجديد، حتى تسعد به ويسعد بأرواح شبابها، ويشجّر باديتها
بأجساد أبنائها. واذا كانت دولة او دول ترى فيه نموذجها الصالح
ليقودها، فيصار حينئذ الى تصديره اليها، ولكن من غير نفط العراق
وخيراته، ليرأسها حتى تتبارك بطلعته ويهنأ بها، وتزدان سجونها بشبابها
وارضها بمقابرهم، وكل عام عيدكم أسعد من سعد السعود!
*الرأي الآخر للدراسات- لندن
alrayalakhar@yahoo.co.uk |