بعد أن توقفت مؤقتاً مشاهد قصف وتحليق طائرات ال ف16 عن قطاع غزة
ليحاول السكان استكمال فرحة جلاء المستوطنين عن جزء من الأراضي
الفلسطينية، وفي أذهان الكثير منهم يرتبط مشهد الجلاء بحلم الاستقرار
والأمن الاجتماعي وسيادة القانون الذي كان مفقوداً لعدة سنوات، بفعل
ممارسات الاحتلال التي أرهبت الأطفال قبل الشيوخ والنساء والشباب،
واقتلعت الشجر ودمرت الحجر، وبفعل عصابات المصالح التي لم تتوان عن
إزهاق أرواح عشرات الأبرياء في مشاهد دموية استنكرها وعاني منها الجميع.
وبعد أن اكتوت كل من حماس والسلطة بنار إشهار السلاح وإطلاق الرصاص
الفلسطيني علي الفلسطيني في أحداث شمال قطاع غزة، وكادت الجماهير أن
تنفجر في وجه مفجري الفتنة، يعود من جديد مشهد أكثر دموية وتطرف، لتبكي
كل الضمائر الحية أمام مقتل ثلاثة فلسطينيين وإصابة العشرات منهم بسلاح
ورصاص فلسطيني، ولم يعد ممكناً التمييز إذا ما كان هذا السلاح هو نفسه
الذي استخدم لمقاومة الاحتلال؟.
فلا يصدق العقل أن يتحول هدف المقاومة والجهاد ونيل المني بين ليلة
وضحاها ، إلي هدف تدمير مركز للشرطة الفلسطينية بداخله بعض المغلوب علي
أمرهم، ولا يوجد لديهم مطمع في أن يصبحوا أعضاء برلمان أو مجلس بلدي!،
بل يشاهدهم الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وهم ينظموا حركة السير علي
الطرقات ولهيب الشمس يحرق جباههم، وبرد الشتاء علق علي جلودهم وساماً
وشارة وضعت علي أكتافهم برتبة غلبان، شاهدهم الجميع في الطرقات وبين
الأزقة بعد كل غارة للطائرات الحربية الإسرائيلية التي قصفت ثكناتهم
ومواقعهم ولم يسلم منها شيء.
غزة صغيرة جغرافياً ومترابطة اجتماعياً، وهناك صلات وثيقة من النسب
والقرابة تجمع معظم سكانها، وليس غريباً في أن يكون اخوين احدهم يعمل
في جهاز الشرطة وآخر ينتمي لحماس، بل الغريب والمحزن عندما يطلق الرصاص
ليوقع بين الأخوين معركة .......!
يتساءل المرء كثيراً عن نوع الفكر الذي يصبّ في عقول الشباب، وما هي
أشكال التحريض المستخدمة لتجعل من مشكلة صغيرة قد تحل بلحظة حكمة،
وتتحول إلي مشكلة دامية تستخدم فيها أسلحة ثقيلة وتراق فيها دماء عشرات
الضحايا من أبناء الدم الواحد وأصحاب القضية الواحدة ؟
انه التعصب الفئوي الخطير، الذي يغلب علي الوطني والعام، ويغلب علي
الدين والفكر، التعصب القاتل الذي يهتك بنسيج المجتمع ويؤهله بجدارة
إلي الدمار.
لا يستطيع أي عاقل تحميل الاحتلال مسؤولية الحدث، فما حدث أمس في
مخيم الشاطىء وحي الشيخ رضوان يتحمل مسؤوليته الأولي والأخيرة كل من
نزل عن "جبل احد" سعياً وراء المغنم الرخيص أمام قطرة دم غالية تراق،
وأمام صرخة طفل أفزعه صوت الرصاص ودوي الانفجارات.
لا اعرف إذا ما كان أقطاب الصراع يقفون صباحاً أمام المرآة،
ليراجعوا حساباتهم ويحكّموا ما تبقي من ضمائرهم فيما يحدث، من هدر
لطاقات الشعب الفلسطيني واستنزاف لمعنويات الشعب الفلسطيني عجز عن
تحقيقه الاحتلال ؟
إن استسهال الدم الفلسطيني أصبح عادة، يبدو أنها غير محرمة، ولم يعد
يندي لها الجبين أو تقشعر لها الأبدان؟
يمكن تبرير أي شيء واختلاق كذبة لكل ذنب ولكن أي منطق ذلك الذي يساق
لتبرير إراقة دم الفلسطيني علي يد أخيه الفلسطيني؟
كنت بينهم في كل الأحداث، ولكن ما أثار استغرابي في هذا الحدث
بالذات هو الجسارة الكبيرة والغريبة لاستباحة الدم، جسارة لم يعهدها أي
مواطن فلسطيني ولا يرضي عنها، إنها لحظة موت الضمير.
لا يمكن تبرير الخطأ بالخطأ ولا الجريمة بارتكاب أخري ولا الفلتان
بالفلتان، وقد يكون العكس تماماً هو المدخل الحقيق لتصويب الأوضاع
وإعادة الهدوء المنشود من الشعار إلي الواقع.
لقد خرج الصراع عن روح المنافسة السياسية علي مغنم سياسي، وتجاوز كل
الخطوط الحمراء إذا ما تبقي هناك خطوط أصلاً، عليهم أن يخجلوا من
أنفسهم وان يتوقفوا عن تلويث المجتمع برائحة الدماء والبارود، جميع
الناس تعرف الحقيقة، فلا تنتظروا حتى يخرج الناس بأقوي أنواع الإيمان،
ولا تتوقعوا منهم أن يلعبوا دور الشيطان الأخرس، كفوا عن ذلك قبل أن
تفقدوا ما تبقي ثقة مع الجماهير ، وليكن المغنم السياسي الكبير هو
إفشال ما يطمح إليه الاحتلال. |