بداية
ً نقصدُ بالقوى المتغيَّبة تلك القوى التي تغيَّبت عن اللحاق بركب
المناضلين ضد الديكتاتورية يوم كان العراقييون بشيعتهم وكوردهم
وأقلياتهم يقارعون الطاغوت في سبيل الحرية والديمقراطية والفيدرالية
بينما كان الاخرون صامتون. ونقصد بالقوى المتغَّيبة تلك القوى التي
تخلفت عن انتفاضة الشعب العراقي عام 1991 والتي عمت العراق من زاخو حتى
الفاو بأستثناء المحافظات الثلاث البيضاء بحسب وصف ديكتاتور البعث
البائد والتي تتحدر منها القوى المتغيَّبة.
ونقصدُ بالقوى المتغيَّبة تلك التي لم يُسمع لها صوت او يُرى لها
أثر في مؤتمر صلاح الدين عام 1992 يوم التقى الجمعان الشيعة والكورد من
احرار العراق ليقروا ولأول مرة في تاريخ المنطقة مبدأ الفيدرالية كحل
لعلاج أستبداد المركز وأستئثاره بالسلطة ومنذ ذلك الحين أتُفق على مبدأ
الفيدرالية بين أكثرية العراقيين الذين تصدوا للديكتاتورية الغاشمة
وقدموا في طريق النضال المرير الغالي والنفيس ورخصوا من اجل الحرية
نفوسهم يومها كانت القوى المتغيَّبة مشغولة بقمع احرار العراق الذين
شاء الله ان يورثهم ارض العراق ويجعلهم أئمته وقادته الجدد بعد ان خسف
بصدام وانصاره من ابناء القوى المتغيَّبة الارض (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ
عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ).
ونقصدُ بالقوى المتغيبة تلك القوى التي لم يُشاهد لها حضوراً في
المقابر الجماعية ولم تشارك بقية العراقيين من شيعة وكورد في آلامهم
وأحزانهم التي شاهدها القاصي والداني حيثُ سيق لتلك المقابر الصغار
والكبار والنساء والرجال والشيب والشباب. ونعني بالقوى المتغيَّبة تلك
القوى التي تعمدت مقاطعة ملحمة الانتخابات التي صنعها ابناء المقابر
الجماعية ظناً منها انها بتغيَّبها ستجهض ثورة الاصبع البنفسجي التي
فجرها العراقيون الاصلاء ودعمتها مرجعياتهم السياسية والدينية لا سيما
مرجعية النجف الاشرف ممثلة ً برجل السماء الامام السيستاني.
ونعود الى سؤالنا الرئيسي لماذا ترفض هذه القوى الفيدرالية ؟
سببان أساسيان يدفعان القوى المتغيَّبة لعدم قبول الفيدرالية.
الاول داخلي والثاني خارجي. اما الداخلي فهو ذو شقين اقتصادي وفكري
تأريخي. الاقتصادي ويعود الى كون المدن التي تستوطنها القوى المتغيبة
تفتقر الى الثروات الرئيسية التي تمتلكها بقية المدن العراقية وخصوصا
مدن ابناء المقابر الجماعية. فأقرار الفيدرالية يعني أعادة توزيع
الثروات وهذا يتطلب منح ابناء الاقاليم الغنية بالثروات حصة أكثر من
غيرهم حسب الثروات التي يتمتع بها كل اقليم فيدرالي مما يعني بالنهاية
ان اقليم ابناء القوى المتغيبة سيكون الأفقر من بين بقية الاقاليم
الفيدرالية وهذا يعني خساراتهم للامتيازات السياسية والاقتصادية التي
جنوها ظلما ً على حساب الاخرين ايام عهد السلطة المركزية.
اما الشق الفكري التأريخي فيتعلق بالتراث الفكري والثقافة السياسية
والسلوك التأريخي للقوى المتغيَّبة . فالتراث الفكري الذي تستمد منه
تلك القوى زادها الايديولوجي وتبني عليه مواقفها السياسية يقوم على
اساس فكرة قداسة السلطة المركزية في اطار الدولة الواحدة ويستهجن اي
شكل من أشكال تحرر الاقاليم.
فعلى سبيل المثال الأمبراطورية الاسلامية التي اقامها العرب والتي
وصلت الى مشارف الصين كانت قائمة على اساس المركزية المفرطة ولم يكن
لولاة اقاليم تلك الامبراطورية القابلية على تجاوز المركز في صغائر
الامور او كبائرها ولعل في مقولة الخليفة العباسي الرشيد مخاطبا غمامة
قي سماء بغداد (اينما تمطرين فخراجك عائد اليَّ) دليل تاريخي على سيادة
عقلية تقديس سلطة المركز التي كانت تجبى اليها الضرائب من اطراف
الامبراطورية الشاسعة وعلى حساب الاقاليم. فعلى هذه الثقافة والفكر
نشأت وترعرت القوى المتغيَّبة .
وقضية آخرى لابد من بيانها تتعلق بالشق الفكري والممارسة التاريخية
وهي ان أستراتيجية القوى المتغيَّبة قامت وتقوم على الانقلاب العسكري
كآلية مثلى للوصول الى دفة الحكم في اطراف النظام المركزي الواحد,
وقبول الفيدرالية يعني اضعاف سلطة المركز, الامر الذي يفوت الفرصة على
الطامعين بالسطلة عبر آلية الانقلابات العسكرية . وبكلمة آخرى فان
الفيدرالية ستحول دون قيام القوى المتغيَّبة بأي انقلاب عسكري من جديد
مما يعيني أفشال أستراتيجية تلك القوى والتي تملك الباع الطويل في هذا
المجال.
والشواهد التأرخية تؤكد ماذهبنا اليه . فأبتدءا ً بأنقلاب سقيفة بني
ساعدة الذي شكلَّ الحجر الاساس لتلك الاستراتيجية المدعومة بأرث فكري
منذ عهد الجاهلية حيث السيف والأخذ بالقوة والغزو وحيث عقلية الغنيمة
وثقافة البداوة والصحراء التي شكلت اهم مفردات الحياة العربية والتي
لم تستطع الثورة المحمدية او الاسلام القضاء عليها كليا ً مرورا
بأنقلاب حرب الجمل فصفين فأنقلابات القصور العباسية وأنقلابات المماليك
وصولا الى حركة الكيلاني ومن ثمَ العقداء الاربعة فانقلاب عارف حتى
انقلاب البعث عام 1968. كل ذلك يؤكد ايمان القوى المتَّغيبة بعقلية
الانقلاب العسكري.
وآخر تلك الانقلابات هو ما حصل قبل ايام قلائل حينما اصر ممثلو
القوى المتغيَّبة على اعاقة عملية كتابة مسودة الدستور وراحوا يضعون
العراقيل في سبيل انتهاء المدة المحددة للكتابة فيصار بعد ذلك الى حل
الجمعية الوطنية وتحويل الحكومة المنتخبة الى حكومة تصريف اعمال .
وخلال ذلك تعمد القوى المتغيَّبة الى تشجيع العمليات الارهابية وخلق
حالة من الفوضى تؤدي بالنهاية الى احراج الامريكيين وأضطرارهم الى
محاورة تلك القوى واعادتهم الى الحكم ثانية ً. هذا هو سيناريو
الانقلاب الجديد الذي اعدته تلك القوى ولكن وعي القيادات السياسية
العراقية حال دون تطبيقه ففوتت الفرصة على القوى المتغيَّبة حينما
استنجدت بقانون ادارة الدولة ومددت المهلة المحددة لكتابة مسودة
الدستور.
واما السبب الخارجي فيتمثل بخوف أنظمة الدول الداعمة سياسيا ً
ولوجستيا ً للقوى المتغيَّبة من انتشار (عدوى) الفيدرالية وانتقالها
الى دولها الامر الذي يهدد وجودها السياسي خصوصا وان اغلب تلك الدول
تعاني من مشاكل في تركيبتها الاجتماعية مشابهة للعراق. ولك ان تتصور ما
سيحدث لتلك الانظمة المستبدة في حال نجاح العراقيين في اقرار
الفيدرالية مما يعني تكرار تجربة الانتخابات العراقية وانعكاسها
عليها حيث سارع اكثرها الى اقرار مبدأ الانتخابات اسوة بالعراق مما
سيضطرهم بالتالي الى اقرار الفيدرالية في دولهم الامر الذي يعني بداية
النهاية لتلك الانظمة.
ومن هنا راحت هذه الانظمة تراهن على افشال كتابة الدستور وأقرار
الفيدرالية وأوكلت هذه المهمة الى القوى المتغيَّبة المتحالفة معها
والتي ما فتأت تستعدي العرب على العراقيين وتتظلم من الوضع السياسي
الجديد . ومن هنا نستطيع القول ان رفض تلك القوى للفيدرالية جاء
ليتماشى وأجندة خارجية اي انها تعمل لتحقيق اجندة دول مجاورة للعراق
ليس من مصلحتها نجاج التجربة الفيدرالية في بلاد الرافدين وتحارب
بالنيابة عن تلك الدول حتى ولو تطلب ذلك رفض الدستور برمته هذا ما صرح
به مراراً وتكراراً اقطاب تلك القوى بل ذهب بعضهم بعيدا حينما هدد
العراقيين اذا ما مرَّروا الدستور بانه سيتحول الى الغام تتفجر عليهم
قبل وبعد الاستفتاء والعاقل يفهم مغزى هذا التهديد.
almossawy@hotmail.com |