دعا الرئيس بوتفليقة الجزائريين للإستفتاء يوم 26 سبتمبر المقبل
على "ميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية".و شرح في خطاب مطول أنه
الحل الوحيد للجزائر كي تخرج من الأزمة التي أدمتها ما يزيد عن عشرية
كاملة، و أنه سيمنع تكرارها مجددا ،و يوفر الجو الملائم للتنمية
الوطنية المنشودة.و سنستعرض بالنقد كيف حلل "الميثاق" الأزمة و
عالجها،ثم نستشرف آثاره مستقبلا حتى نوازن بين إحتمالات تحقيق وعوده و
إحتمالات تجدد الأزمة بنفس الخطورة أو أشد منها.
بداية و رد في خطاب بوتفليقة عبارات متعارضة تكشف أنه لا يِؤمن
كثيرا بوعود "الميثاق" الذي يدعو إليه،مهد مثلا لكلامه بعبارة تقيلة
المعنى لم تمر دون أن تثير زوبعة من الشكوك و الحيرة ، هي قوله"إن هذا
"الميثاق" هو ما تسمح به التوازنات الوطنية حاليا"،ثم بعدها يؤكد أنه
المشروع الوحيد الذي سيشفي الجزائر إلى الأبد من أزمتها.و ما ينبغي
لإصلاح الأزمة ليس هو بالضرورة ما تسمح به التوازنات الوطنية.و ليست
هذه المرة الأولى التي يبدي فيها الرئيس بوتفليقة موقفا مخالفا لموقف
قادة الجيش من الأزمة.قال في بداية عهدته الأولى ،إن أول إعتداء هو
توقيف مسار الإنتخابات التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ ،و أنه
لو كان في عمره عشرين آنذاك لحمل السلاح،لكنه في مشروع"الميثاق" تبنى
موقف قادة الجيش الذين ينسبون أول إعتداء للجبهة الإسلامية للإنقاذ
التي حاولت حسبهم أن تهدم الجمهورية و تقيم مكانها خلافة إسلامية
بالدعوة الى "جهاد مزعوم" كاد يقضي على الدولة الجزائرية،و تسبب في
قتل نحو 100ألف و خسارة ما يفوق 20 مليار دولار.كل هذا التردد يشكك من
البداية في إيمان الداعين الى "الميثاق"،و يصعب عليهم أن يقنعوا
الجزائريين بمشروع هم غير مقتنعين به.
يقدم "مشروع الميثاق " تحليلا للأزمة و لعلاجها يتفق إتفاقا كاملا
مع ما ظلت قيادة الجيش تردده.و يتكون خطابهم من رواية للأحداث تعطي
لمواقفهم و قراراتهم شرعية تمنحهم حق حرمان خصومهم من فوزهم في
الإنتخابات التشريعية عام 92 التي أشرفوا هم عليه و أعلنوا عن صحة
نتائجها.تتفادى روايتهم الإشارة الى توقفيهم المسار الإنتخابي ،بل
يبدأونها بالحديث عن "إن بعض رؤوس الفتنة دعوا الى ما يشبه الجهاد
للقضاء على الجمهورية حتى يقيموا مكانها خلافة دينية،لكن قيادة الجيش و
القوى الوطنية الحية تفطنت للمؤامرة فحاربت مشروعهم الشيطاني و هزمته،و
ستمنع في المستقبل كل إستغلال للإسلام من أجل الوصول للسلطة".يلخصون
أصل الأزمة في إستغلال خاطئ للدين الإسلامي.و هم بذلك ينكرون أن يكون
أصل الأزمة في النظام السياسي .و يؤسسون كل تحليلاتهم و معالجاتهم على
هذا الإنكار.و هذا ما يعيدونه في "الميثاق من أجل السلم"،و يبنون عليه
إجراءات العلاج،و يعطون و عدا بأنه سيمنع في المستقبل تكرار الأزمة،و
ينهض بالتنمية الوطنية.
خيار الخروج على القانون
أما الذين حملوا السلاح فإنهم يقولون إن السلطات لم تترك لهم خيارا
آخر إلا القتال،لأنها تمنع كل السبل السلمية من أجل المطالبة بالحقوق و
الدفاع عنها.و يضربون المثل على رفض قيادة الجيش و أعوانها من
السياسيين الطرق السلمية القانونية من أجل الوصول للسلطة و البقاء
فيها بالغائها نتائج الإنتخابات التشريعية التي فازت فيها الجبهة
الإسلامية للإنقاذ.و يؤسسون على ذلك دعوتهم إلى خيار حمل السلاح لأنها
فى إعتقادهم سلطة لا تفهم الا لغة الرصاص و العنف و القوة.
هما إذن مشروعان.مشروع السلطات العسكرية يزعم أن أساس الأزمة ليس
سياسيا بل مع بعض دعاة الخلافة المستغلين للإسلام للوصول للسلطة،بل
إنها تزعم أنها حاربت المسلحين حتى تحمى القوى الديمقراطية و دولة الحق
و القانون من بطش الإسلاميين.و مشروع المسلحين الذي يزعم أن الأزمة
سياسية و تتمثل في رفض السلطات العسكرية و أعوانها كل معارضة سياسية
حقيقية ملتزمة بالطرق السلمية القانونية.و إذا لم يحسم مشروع"الميثاق
من أجل السلم" في هذه المناظرة، فإنه لن يكون الا فرصة أخرى تضيع على
الجزائريين،و يحمل في أحشائه جنين أزمة قادمة قد تكون أخطر من السابقة.
يمكن أن نلخص أغلب إجراءات السلطات الجزائرية طوال العشرية السابقة
بغلق مجال المشاركة السياسية ،لم تحم كما زعمت القوى الديمقراطية من
"الغول"الإسلامي و إنما حرمتها من كل عمل سياسي قانوني،و لم تبق منها
إلا من وافقت على تبرير عمليات التزوير الهائلة.و بذلك تطعن في زعمها
أن المتسببين في الأزمة هم دعاة الجهاد المزعوم.لم يحصل سيد أحمد غزالي
على إعتماد حزبه في عهد الرئيس بوتفليقة.وغزالي علماني ،و هو رئيس
الحكومة الذي أوقف بأمر من الجنرالات المسار الإنتخابي الذي فازت فيه
الجبهة الإسلامية للإنقاذ،و لم يقدم وزير الداخلية أي تبرير لهذا
الرفض.و لم يحصل حزب البديل على إعتماد.و هو حزب أسسه قياديون منشقون
عن أحزاب علمانية ،مثل حزب جبهة القوى الإشتراكية وحزب التجمع
الديمقراطي الأمازيغي.و لم تقدم أيضا السلطات تبريرا للرفض.و رفضت أيضا
إعتماد حزب و طني أسسه و زير الخارجية الأسبق أحمد طالب
الإبراهيمي.فكيف يمكن للسلطات أن تقنع أحدا بأنها تحمي الديمقراطية من
الخطر الإسلامي ،و أن ما يدعيه المسلحون من أنها لم تترك لهم خيارا إلا
حمل السلاح ليس الا أكاذيب باطلة؟و كيف تنكر أن الأزمة سياسية إذا كانت
ترفض فتح مجال العمل السياسي لمن تزعم أنها تحميهم من دعاة الخلافة؟
و لا ينحصر التضييق على النشطاء السياسيين بل يطول العمل الإجتماعي
المستقل.لم تعتمد السلطات نقابات مستقلة لا تخضع لها مع أن هذه
النقابات حصلت على إعتراف هيئات العمل الدولية.و تدأب السلطات على
محاصرة الهيئات المنتخبة و التخلص منها أو إفراغها من صلاحياتها.إنتهز
الرئيس بوتفليقة إنتهاء الدورة البرلمانية ليصدر بمرسوم رئاسي مشروع
الإنعاش الإقتصادي الثاني،و قيمته خرافية تبلغ 55 مليار دولار.و لن
يستطيع البرلمان مناقشته أو تصحيحه أو رفضه.و ما له إلا أن يوافق عليه
بالجملة أو رفضه جملة و يعرض نفسه للحل،و يعرف الرئيس بوتفليقة أن
النواب لن يغامروا برفضه حتى لا يخسروا عهدتهم الإنتخابية.و إذا كانت
السلطات تتصرف بطريقة إنفرادية في غلاف مالي يمكنه أن يصنع نهضة تنموية
فكيف تزعم أن الخروج من مأزق التنمية ليس مرتبطا بفتح النظام السياسي
للمشاركة الحقيقية و إنما بحرمان دعاة الجهاد المزعوم من المشاركة
السياسية حتى نفتح الطريق للتنمية الوطنية المرجوة.و قد أنفقت السلطات
من قبل 7 ملاير دولار في مشروع الإنعاش الإقتصادي الأول،و يقول
المختصون ،و منهم المجلس الإقتصادي الإجتماعي التابع لرئاسة الجمهورية
قانونا لكن رئيسه منتوري شخصية نزيهة إستقال مؤخرا، أن ما ذهب فعلا
للمشاريع الحقيقية بلغ نسبة 25 بالمائة و أما الباقي فقد ضاع،و يتوقعون
أن تضيع نفس النسبة من أموال المشروع الحالي دون أن يراقبها أحد،مادام
البرلمان لا يستطيع حتى مناقشتها فكيف يمكنه مراقبة صرفها أو المحاسبة
عليه.
الخيانة و الوطنية
لا تكتفي السلطات بغلق السبل االقانونية السلمية لكل من يريد
مشاركتها في السلطة ،بل إنها تعطي في تعاملها مع أزمة منطقة القبائل
مثلا على تشحيعها لكل من يواجهها خارج القانون.إتهمت في البداية قيادة
الإحتجاج بالعمل لصالح دوائر أجنبية،ثم حكمت عليهم بالسجن كمجرمين،
لكنها بعد أن أغلقوا في وجهها منطقة القبائل و نجحوا في إفشال المواعيد
الإنتخابية،إعترفت بهم كزعامات و طنية،و فاوضتهم كممثلين لمنطقة كاملة
،و أعطتهم تنازلات دون إستفتاء شعبي في مسائل حيوية تخص اللغة
الأمازيغية،أقسم من قبل الرئيس بوتفليقة أنه لن يجعلها لغة دستورية إلا
بعد إستفتاء شعبي.مع أن قادة عروش القبائل لم يحصلوا على إعتماد قانوني
يسمح لهم بالنشاط،و لما سألوا قائدهم بلعيد عبريكا عن إشاعات حصوله على
إعتماد قانوني لتنظيمه،أجاب ساخرا :وماذا أفعل به؟.و في نفس الوقت تقمع
السلطات كل تنظيم لم يحصل على إعتما قانوني حتى و لو كانت مطالبه
قانونية و شرعية .أليس هذا تشجيعا على العصيان و الخروج على القانون؟
و مادام مشروع"الميثاق من أجل السلم و المصالحة"لم يفتح الأبواب
أمام من يريد أن يشارك في صنع مصير الوطن بالطرق القانونية السلمية
فإنه لم يترك الا بابا و حيدا هو باب الخروج على القانون.و ليست كل
الإجراءات التي إستفادت منها الفئات الخمسة:المسلحون،و قوات الجيش و
الأمن،و المفقودون،و ضحايا الإرهاب،و قادة الجبهة الإسلامية لإنقاذ
،إلا إجراءات قانونية و إجتماعية لا تعالج أصل الأزمة، و إنما تحاول
أن تضع عليه مكياجا يجعلها تبدو جميلة دوليا بحرمان المطالبين بمحاسبة
المتورطين في الجرائم ضد الإنسانية من حقوقهم ،و وطنيا بتعويض الفئات
الأخرى ماديا على حقوقها أو شراء سكوتها.
إذا كانت كل إجراءات السلطات في السابق هي الغلق الفعلي باب العمل
السياسي القانوني السلمي ،فإنها في مشروع"الميثاق من أجل السلم" تريد
أن يحتفل الجزائريون برمي مفتاح الباب نهائيا في البحر.و لن يبقى
مفتوحا إلا باب العنف و العصيان و الخروج على القانون.و إذا إندلعت
الأزمة مجددا ،فإنها ستكون أشد لأن الجيل الجديد سيتعلم من الأزمة
السابقة،و ستتناقص موارد السلطات المالية لأن موردها الأساسي البترول
يتناقص و لا يتجدد،و سيضعف تماسك قيادتها لأن الذين بتولون القيادة جيل
جديد لا يملك تماسك الجيل القديم و لا شرعيته الثورية.
--------
كاتب وصحفي جزائري* |