عند
مراجعة النصوص الدينية تبرز أمامنا مسألة الوحدة كأساس للاستقرار
المدني وكخطوة أساسية للتقدم نحو العزة والكرامة، إن الوحدة في المفهوم
القرآني لا تقف عند حدود السلوك الأخلاقي الذي يفترض ان يتصف به
الانسان المؤمن، وإنما تتعدى ذلك لتكون شرطاً للحضور والتقدم بين الأمم
في عالم يتحرك وفق حداثة علمية فائقة النشاط.
فالوحدة المنشودة لا تقوم على الإلتقاء عند الوحدة القبلية او
الانتماء العصبي، وإنما تقوم على الدين، وإلى ذلك يشير قوله تعالى في
سورة الشورى: (أن اقيمو الدين ولا تفرقوا فيه)، إن الوحدة على أساس
الدين بما يحمله من قيم العدل والمساواة والحقوق، يعني ان مجالات
الوحدة والالتقاء بين المختلفين أمر يمكن تحقيقه بسهولة ويسر، إن
المؤمنين الموحدين يصطفون في جبهة واحدة كأخوة يناضلون دوماً من أجل
عموم الخير للبشرية فهم ينطلقون من مبدأ «الخيرية» للجميع، للإنسان بما
هو انسان بغض النظر عن قناعاته الفكرية والسياسية أو أصوله التي ينتمي
لها.
والاهتمام بالوحدة ينطلق في المفهوم القرآني ليمثل السمة التي لا
ينبغي التراجع عنها في كل الاحوال، انه الامر الذي يستحق التضحية من
اجله من قبل المؤمنين الصالحين، والتضحية تعني التنازل عن المكاسب
الشخصية من اجل وحدة الجماعة، وتعني القفز على المصالح الذاتية في سبيل
تحقيق اكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية، وتعني احترام الخصوصيات
الثقافية وعدم الاعتداء على الآخرين أو الانتقاص من حقوقهم الاساسية.
في هذا السياق.. ينبغي ألا يشغلنا تعميق مفاهيم «التعددية» عن العمل
على تحقيق الوحدة كمفردة حيوية لا يمكن التنازل عنها او تعطيلها، بحيث
لا تكون الدعوة إلى التعددية معبراً نحو تأصيل الفوارق بين المسلمين،
ان التعددية امر لا يمكن انكاره او الانقلاب عليه في اي مرحلة من
المراحل، ولكن في مرحلة يأخذ الحديث عن التعددية صفة «معبر الخلاص
والنجاة» للمجتمع من حالة التقاتل والتنابذ التي يعيش فيها نتيجة
لسيادة التعصب والتطرف على الحياة العامة، وفي مرحلة اخرى يأخذ الحديث
عن التعددية صفته كمفهوم معرفي يساهم في تأصيل الاحترام المتبادل بين
أعضاء المجتمع الواحد، باعتباره الفضاء الملائم للانتقال الى الوحدة
المنشودة.
ان الانشغال الفكري عند المسلمين لا يزال متوقفاً عند مرحلة الصراع
حول اثبات التعددية وحق التنوع، ولم يتمكن من الانتقال نحو تعميق هذه
الثقافة لخدمة الاغراض الاساسية لدعوة التعددية، بالصورة التي يخشى ان
تسير تعميمات التعددية الى تشتيت المواقف بدلاً من لملمة الشمل، وسبب
ذلك في احد أبعاده يعود لاستمرار عقليات مترسخ بقناعة «ملكية الحقيقة
المطلقة»، هذه العقليات تعتبر طريقها وحده هو «الصراط المستقيم» الذي
يهلك من تخلف عنه.
على ان هذا لا ينفي حالة الضعف التي لازمت المعالجات الفكرية في
موضوع الوحدة الاسلامية، فمن خلال تتبع الكتابات الجادة حول الموضوع،
نلاحظ انها ركزت على تأصيل مفردة التعددية والتنوع وتوقفت عندها، ولم
تتابع بجهود فكرية لتوضيح آلية استثمار التعددية في التحول نحو الوحدة،
ان التعددية في هذه الحالة لا تعدو ان تكون معاهدة وقف قتال بين
الأطراف، ان افضل ما يمكن ان يوصلنا اليه حديث التعددية هو قبول بناء
مساجد للمذهب الآخر، او القبول بتدريس فقهه المختلف عن الفقه الرسمي،
وهذا امر برغم اهميته، الا انه بعيد عن مشروع بناء القوة المتماسكة
القادرة على النهوض بالواقع الراهن.
وبظني ان الحديث عن التسنن والتشيع - اذا اريد لمجتمعاتنا ان ترتدي
ثياب النهضة والتقدم - ينبغي ان يتحول من الحديث عن ضرورة التعددية الى
البحث عن دور التعددية في مشروع الوحدة، بالصورة التي تتراجع فيه دعوى
التأكيد على التنوعات المذهبية التي اصبحت امراً واقعاً لا مفر منه،
الى الحديث عن المنهج الذي يمكن من خلاله تحويل الاعتراف المتبادل
بالتنوع المذهبي الى اطار يدفع في اتجاه التكامل بين المذهبين.
لقد قدم دعاة التعددية اسهاماً مهماً في طريق تهميش فكرة التكفير في
الوسط الاسلامي، وحاولوا ان يضعوا اغلالاً حولها، ويحجموا من
استخدامها، وخطوا بمجتمعاتنا خطوات نحو نشر ثقافة الاعتراف بوجود
المذهبيات المتنوعة، بحيث اصبحت جميع التوجهات - حتى اكثرها تشدداً في
الوسط الاسلامي - تصف نفسها بانها تحترم التنوع ولا تمارس التكفير، وان
كانت تمارس التكفير واقعاً بين فينة وأخرى، لكن الدعوة الى التعددية في
الوقت الراهن بدأت تراوح مكانها، ولم تعد تحقق انجازا على مستوى
المفاهيم والنظريات الكلية.
والفكرة التي اقترحها للخروج من مراوحة التعددية مكانها واستكمال
مشروعها، هي ضرورة النظر في التعددية باعتبارها امراً مفروغاً منه لا
يمكن التشكيك في وجوده، واعتبار الاختلاف حقاً من حقوق الانسان
المحترمة، وبالتالي فلا مفر من اغلاق ملف الاختلافات التاريخية
باعتبارها أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا ولا نسأل عما كانوا
يعملون، ان التنظير هنا سيتوجه نحو بناء نظرية في الوحدة بدلاً من
الدوران في حلقة الماضي والحاضر بطريقة اعتباطية تكرارية، او بطريقة
اغلاق ملفات ساخنة في مرحلة لتعود بصورة اكثر سخونة وتوتراً في مرحلة
لاحقة.
حتى تكون الاختلافات اختلافات اجتهادية لا ترقى الى حد استمرار
الصراع الروحي والمادي لاسباب تتعلق بحوادث جرت في أزمان سالفة، وهو ما
يسمح بتركيز الجهود نحو استنباط الأهداف العليا للإسلام، والخروج من
الجدل حول القضايا الفرعية والاختلافات المذهبية الجزئية واثارتها
باستمرار.
alshehab@yahoo.com |