يحتفل العالم الإسلامي بالذكرى الخالدة لميلاد سيد الموحدين وإمام
البلغاء والمتكلمين أبو الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وبهذه
المناسبة هممت لكتابة بعض الشيء إلاّ أن الكلمات امتنعت والقلم أبى،
فما يمكنني أن أقول في علي بن أبي طالب وهو ثاني أفضل شخصية في العالم،
بل في التاريخ أجمع؟! وله المكانة الكبرى في نفس النبي صلى الله عليه
واله وسلم ، بل إنه عليه السلام هو نفس النبي كما صرح بذلك القرآن
الكريم في آية المباهلة، كما إن العديد من الآيات القرآنية الشريفة
نزلت في علي دون غيره.
علي في القرآن الكريم:
فمن الآيات التي نزلت في فضله ولتبيين حقه ومكانته:
1- ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾، روى الطبري
عن ابن عباس، قال لما نزلت هذه الآية وضع النبي يده على صدره وقال: أنا
المنذر ولكل قوم هاد، وأومأ إلى منكب علي فقال: أنت الهادي، بك يهتدي
المهتدون بعدي.
2- ﴿ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَة
﴾، قال أمير المؤمنين في تفسير هذه الآية: قال لي رسول الله سألت ربي
أن يجعلها أذنك يا علي فما سمعت من رسول الله شيئاً فنسيته.
3-﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، وفي سبب نزول هذه الآية ما ورد
في «الصواعق المحرقة» أنه كانت عند الإمام أربعة دراهم فأنفق في الليل
درهماً وفي النهار درهماً وفي السر درهماً وفي العلانية ردهماً فقال له
النبي: ما حملك على هذا فقال أستوجب على الله ما وعدني، فنزلت الآية.
4-﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ
هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾، روى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنا
عند النبي فأقبل علي فقال النبي: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته هم
الفائزون يوم القيامة، ونزلت فيه الآية الكريمة، فكان أصحاب النبي إذا
أقبل علي قالوا جاء خير البرية.
5- ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ ﴾، نزلت هذه الآية على الرسول صلى الله عليه واله وسلم
في غدير خم بينما كان راجعاً من حجة الوداع، وقد أُمر النبي فيها
بتعيين علياً خليفة من بعده، فقام النبي فنصب الإمام علي أميراً
للمؤمنين خليفة من بعده وقائداً لها من بعده، وقال مقولته المشهورة: من
كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من
نصره واخذل من خذله، فقام عمر بن الخطاب وقال له: هنيئاً لك يا ابن أبي
طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
6-﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
رَاكِعُونَ ﴾، روى الصحاب يالجليل أبو ذر الغفاري رحمه الله قال: صليت
مع رسول الله صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع
السائل يده إلى السماء وقال اللهم اشهد أني في مسجد الرسول فما أعطاني
أحد شيئاً وعلي كان راكعاً، فأومأ إليه بخنصره اليمنى، وكان فيها خاتم
فأقبل السائل فأخذ الخاتم بمرأى من النبي، فقال: اللهم إن أخي موسى
سألك فقال: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا
قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون اخي اشدد به أزري وأشركه في أمري،
فأنزلت قرآناً ناطقاً سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً، اللهم وأنا
محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أعلي
علياً أشدد به أزري، قال أبو ذر فوالله ما أتم الرسول هذه الكلمة حتى
نزل جبرئيل فقال يا محمد اقرا ﴿ إنما وليكم الله ورسوله... ﴾.
7- ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾، قال الرسول الأعظم صلى
الله عليه واله وسلم لعلي عليه السلام : يا علي أنت الطريق الواضح وأنت
الصراط المستقيم وأنت يعسوب المؤمنين.
وغير ذلك الكثير الكثير، وهو ما يشير إليه ابن عباس بقوله: لو أنّ
الشجرَ أقلام، والبحرَ مدادٌ، والإنس والجن كتّاب وحسّاب، ما أحصوا
فضائل أمير المؤمنين .
علي عند النبي(ص):
كان علي بن أبي طالب من أشد الناس التصاقاً بالنبي صلى الله عليه
واله وسلم ، ومن أشدهم قرباً واتصالاً به، وقد خصّه النبي (ص) بأحاديث
عظيمة دلّت على شدة محبته له، وإعجابه به.
من هذه الأحاديث:
1- أنا وعلي من شجرةٍ واحدة، والناس من أشجارٍ شتى.
2- يا علي أنت خليفتي على أمتي.
3- علي مني وأنا من علي، قاتل الله من قاتل علياً، علي إمام الخلقة
بعدي.
4- أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لانبي بعدي.
5- هذا أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.
6- أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد البيت فليأت الباب.
7- أنا دار الحكمة وعلي بابها.
8- كان النبي في جماعة من أصحابه، فقال لهم: إن تنظروا إلى آدم في
علمه، ونوح في همه، وإبراهيم في خلقه، وموسى في مناجاته، وعيسى في سنه،
ومحمد في هديه وحلمه، فانظروا إلى هذا المقبل، فتطاولت الأنظار إليه
فإذا هو علي.
9- ويتابع أبو ذر كشف الحقيقة المرة التي لم يستسغها بعض من عاصر
النبي (ص) بقوله: دخلنا على رسول اللَّه(ص) فقلنا: من أحب أصحابك
إليك؟ فإن كان أمر كنّا معه، وإن كانت نائبة كنّا دونه. قال: «هذا
عليّ، أقدمكم سلماً وإسلاماً.
هذه الأحاديث وحدها تكفي لأن يكون علي بن أبي طالب هو الشخص الأول
في قلوب الناس، فضلاً عن أنه (ع) يمتلك من المؤهلات العالية والعظيمة
مما تؤهله للمحبة في قلوب المؤمنين ولأن يكون الشخصية المثالية
العالمية في نظر المنصفين من الناس ممن ينظرون بعين واقعية، ففي حياته
وسيرته العديد من الدروس والعبر والأخلاق العظيمة الرائعة التي يحتاجها
كل الناس في حياتهم، والتي تعتبر دستوراً ونظاماً عالمياً يسير بالناس
للأمن والأمان والسلام، فقد عاش علي (ع) ثلاثة وستون عاماً في أحداثٍ
وظروف مختلفة تماماً، لكنه كان ثابتاً على مبادئه و قِيَمه، لم يتغير
ولم تغيره الدنيا، سواءً عندما كان فقيراًً محارباً من أجل العقيدة
وإرساء دعائم الدين، أو عندما كان على رأس الحكومة الإسلامية والأموال
والجيوش تحت تصرفه.
أخلاق علي:
حظي التراث الإسلامي بحظ وافر من أخلاقيات علي بن أبي طالب على
اختلاف الفترات والمراحل التي مرّ بها، إلاّ إنها متشابهة من حيث
المبدأ والقيم، فعلي كان ثابتاً على الحق ولم يحد عنه قيد أنملة، ولأن
نظرته للدنيا نظرة دونية، فهو لا يرى الدنيا إلاّ إنها سجن للمؤمن
وجنّة للكافر.
وقد تحلى علي بكل الصفات الحسنة، بل كان نموذجاً وافياً لجميع تلك
الصفات، بل إنه وضع الأسس الصحيحة لها، فأصبحت من أساسيات الدين
الإسلامي.
ومن هذه المبادئ العظيمة التي دعا إليها الإمام: حقوق المسلم على
أخيه المسلم هذا الأمر الذي تفتقر إليه الكثير من المجتمعات، ويشكو منه
الكثير من الأفراد، بالرغم من إنها لو أُديت على حقها الكامل والصحيح
فإنها تمثل قوة للإسلام وحماية لأفراده من كل الشرور.
فلقد أوجز الأمير الحقوق في الحديث الشريف:
(للمسلم على أخيه ثلاثون حقاً، لا براءة له منها إلاّ بالأداء أو
العفو؛ يغفر زلته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل
معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويعود
مرضته، ويشهد ميته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر
نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمت
عطسته، ويرشد ضالته، ويرد سلامه، ويطيب كلامه، ويبر انعامه، ويصدق
أقسامه، ويوالي وليه، ولا يعاديه، وينصره ظالماً ومظلوماً، فأما نصرته
ظالماً فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقه، ولا
يسلّمه ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما
يكره لنفسه).
حبذا أن يحاسب كلٌ منا نفسه في هذا الحديث، ويرى هل يمارس ما فيه من
الحقوق تجاه الآخرين، وبالطبع فإن كل منا يأمل من الآخرين ممارسة نفس
الأدوار هذه بحقه، فمن منا لا يرغب أن يغفر له الآخرون زلته، أو يسترون
عورته؟!
لكن ينبغي أن نتعامل مع الآخرين كما نحب أن يتعامل الآخرون معنا
«حُبَّ لأخيك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها». وفي حديث آخر عنه
(ع) : إن للمسلم على أخيه المسلم من المعروف ستاً: يسلم عليه إذا لقيه،
ويعوده إذا مرض، ويسمِّته إذا عطس، ويشهده إذا مات، ويجيبه إذا دعاه،
ويحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه.
إن مجتمعنا اليوم يفتقر للترابط والتلاحم، بل إن أبسط الحقوق مغيّبة
عن أفراده، فكم من أبٍ يشكو أبناءه؟! وكم من زوجة تشكو زوجها؟! وكم من
فتاة تشكو قسوة أبيها وشدته؟!
في زيارة قمنا بها للمجمع الصحي في سيهات والذي يرعاه الحاج عبد
الله المطرود تغمده الله برحمته الواسعة رأينا فيه أمراضاً مستشرية في
المجتمع المسلم. ففي مشهد مؤثر قامت امرأة كبيرة في السن وتسكن في
الدار منذ خمسة عشر عاماً تسألنا هل فيكم (فلان)؟! وألحّت في السؤال
وكلنا في تعجب عن إلحاحها في السؤال وعن (فلان) هذا؟! حتى أجابنا
المشرف بأنها تسأل عن ولدها الذي لم تره منذ خمسة عشر عاماً على الرغم
من وجوده في البلدة ويتمتع بصحة جيدة ومستوى مالي ممتاز!! ألا يمثل هذا
الشخص وباءً في المجتمع، وألا يعتبر مرضاً يجب القضاء عليه؟!!
وفي مشهد آخر في الدار ذاتها رأينا طفلة في السنة الثانية من عمرها
لا تبصر ولا تتكلم بل إنها لا تتحرك أيضاً، فهي الأخرى نتيجة شجار بين
أبيها وأمها وكلاهما يجذبها نحوه حتى سقطت على الأرض وأصيبت بشلل تام
وهي في الستة أشهر الأولى من عمرها! فما ذنب هذه الفتاة؟ أليست ثمرة
لتهور أبويها ولامبالاتهم؟ ألم يكن من الأجدر بالأب أو الأم أن
يتنازلان عن بعض حقوقهما أو جميعها لصالح هذه البنت المسكينة؟!
إن ولايتنا لعلي بن أبي طالب وانتمائنا لمدرسته الفكرية العظيمة
تلزمنا أن نسير في دربه ونسلك مسلكه، وحيث أن «الدين المعاملة» فإن
تعاملنا مع الآخرين لابد وأن يكون وفق النظرة الشرعية الصحيحة ووفق
المنهج الحكيم الذي دعا له أمير المؤمنين.
إن وجود الجمعيات الخيرية في المجتمع دليل على وعيه، إلاّ إن تقارير
الجمعية وكافل اليتيم توضح مقدار التفكك الأسري الذي يعانيه المجتمع،
فبعض الفقراء الذين تعيلهم الجمعية ينتمون لعوائل راقية ومقتدرة
مالياً، وبعضهم لديه من أقاربه كعمه أو أخيه أو خاله من بإمكانه أن
يتكفل به ويغنيه عن سؤال الجمعية أو الناس عموماً.
هذا في جانب واحد، نسأل الله تعالى أن يوفقنا للسير على نهج علي
صلوات الله وسلامه عليه، كما نسأله جل وعلا أن يعيد هذه الذكرى على
الأمة الإسلامية بالخير والبركات، إنه سميع مجيب الدعاء، والحمد لله رب
العالمين.
القطيف – المملكة العربية السعودية
|