إٍعرف المسالمة، ترفض العنف

  د.اسعد الامارة*

    يبدو ان كثيراً من السلوك الانساني يكون موجهاً نحو اشباع الدوافع الداخلية للفرد،فكما هو الحال اشباع دوافع الجوع والاكل والماء وهي حاجات فسيولوجية اساسية ايضاً ،فأن دوافع المسالمة واللاعنف هي دوافع اجتماعية المصدر تقوم على اعتماد اشباعات الافراد من خلال عمليات الاتصال والتواصل مع الاخرين،والمسالمة هي الاخرى من نفس الاصول،تحركها الدوافع وتديرها الحوافز،والحال ذاته في نقيض المسالمة واللاعنف،وهو العنف والعدوان،فالرغبة تسبب المعاناة كما تقول ادبيات علم النفس وان السلوك يستدل منه على الدوافع التي حركته لذا فنحن نقول ان سلوك المسالمة وراءه دافع، وسلوك العنف يكمن خلفه دافع ايضاً ولو استعرضنا تعريف الدافع Motive لوجدنا انه حالة داخلية تنتج عن حاجة ما وتعمل هذه الحالة على تنشيط واستثارة السلوك الموجه نحو تحقيق الحاجة المنشطة.فالدوافع التي تتحكم بالسلوك بشقيه المسالم والعنيف تصدر من ذات واحدة ولكن في سلوك المسالمة ودوافعها تكمن غلبة الدوافع الاجتماعية الانسانية بينما في دوافع العنف والعدوان تطغي بواعث او غريزة الكراهية والبغض وتوقع الشر من الاخرين دائماً حتى يصل بصاحبها القيام باعمال وحشية وهو بنفس الوقت حالة ارتكاسية للشعور بالاحباط،وهو فشل التواصل بين الذات وبين الآخر،اذن سلوك العنف والعدوانية هي فشل التواصل بين الذات والآخر.

  ان الدافع الاساس في اللاعنف والمسالمة هو روح خلق الدوافع الاجتماعية بين الناس والتعاضد والتكاتف،فالاتصال بالناس يخفف من وطأة غربة النفس وان اشباع هذا الدافع يأتي من خلال اشباع حاجات اخرى مرتبطة به مثل مشاعر الحب،القبول،الاستحسان،الاحترام،ويقول الفيلسوف الانكليزي جورج برنارد شو،تلك هي المتعة الحقيقية في الحياة..الحياة التي نحياها لتحقيق غاية ندركها وتبلغ من انفسنا مبلغاً،انها قوة ،بدلا من الشكوى والتململ الاناني المحموم،لأن العالم لن يكرس نفسه من اجل سعادتنا ،وانا مع الرأي القائل بأن حياتي تنتمي الى المجتمع بأسره ويزيدني شرفاً ان اخدم هذا المجتمع قدر طاقاتي طالما فيٍّ عرق ينبض،واريد ان استغل كل طاقاتي ومهاراتي قبل ان اموت،فكلما عملت بجد واجتهاد عشت اكثر،فدوافع المسالمة واللاعنف تدعو الناس جميعاً لأن يمارسوا حياتهم بلطف تجاه انفسهم اولاً،فنحن نستطيع ان نوجه انفسنا نفسياً نحو تقبل الاخرين،هذا التقبل ينبع من هدوء البال والطمأنينة وهو يأتي من طريق واحد لاغير هو تناغم حياتنا مع قيم المسالمة والمبادئ الانسانية،اياً كان مصدرها،فكرياً ام سياسياً ام دينياً معتدلاً،فدوافع المسالمة حينما يعرفها اي منا،فهي تقوده لأن يضفي السعادة على نفسه اولاً وعلى حياة الاخرين ثانياً وبذلك يصبح ترك الاثر في النفوس وليس المكانة الاجتماعية او دوافع الشهرة او المال ،فمعظم رجال المسالمة واللاعنف من الانبياء والرسل وحملة الفكر الانساني كانوا دعاة زهد وتصوف في الفكر والممارسة.

    تقود دوافع المسالمة واللاعنف الناس الى ان يعرفوا سلوكهم في الاخرين،فأن معظمهم يقومون بدور في المرآة الاجتماعية،حيث يتأثرون باراء وتصورات المحيطين بهم،ويتفاعلون معهم ويؤدون لهم خدمات جليلة في جميع المناسبات حتى بتنا نحن البشر المتفرجين على سلوك المسالمين ودعاة اللاعنف ومن المتابعين لاراءهم ونظرياتهم وما يطرحون من فكر،نخرج بتصور ذهني يؤكد حقيقة اننا جزء من تلك المرآة الاجتماعية.

 نحن عامة البشر لا نستطيع ان نقطع بالجزم ان نقاء النفس الانسانية نقاءاً لا شك فيه حتى في نفوس المسالمين به من النزعات التي تكون بعض جوانبها غير مضيئة  ولكن الشكل المتسامي للطاقة التي تجد طريقها للعمل من خلال استدخالها في توكيد قوة الانا وتوجيه اللبيدو(الطاقة النفسيةوالجنسية)نحو التفريغ المقبول اجتماعياً بحيث ترتبط برباط اوثق مع مكونات الشخصية الاخرى مثل قوة الضمير الحي وخدمة الاخرين حتى ترتقي بها الى السمو والاعلاء النفسي ،وفي هذه الحالة يكون التنظيم النفسي"التوازن"متاحاً لاولئك المسالمين بحيث يتيح لهم ان يمتلكوا قدرة غير طبيعية في تحمل المواقف الضاغطة ومواجهة الاحباط،ويقولون دائماً في قرارة انفسهم وللاخرين دائما:(قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا).لديهم القدرة على تأخير غضبهم او تأجيله في اصعب المواقف او حتى تأخير ارضاء الرغبة الآنية،وتبدو القوة والتماسك النفسي الداخلي والخارجي واضحاً تماماً فضلا عن القوة في الشكيمة التي لا يفقدونها بسهولة حتى كادت ان تدعم توازنهم السيكوبيولوجي.

  من يتعلم ويكتسب سلوك المسالمة واللاعنف لا يلجأ الى العدوان اطلاقاً ولا يلجأ بسهولة الى الغضب والاثارة،وهذه الوضعية تخفف حدة دينامية المجال العدواني كما عبر عنها(د.فاروق مجذوب)ويضيف ان دعاة المسالمة واللاعنف يتمتعون بحسن التنظيم النفسي الذي يؤدي الى التخفيف من تواتر وتنشيط الحواجز الداخلية امام الحواجز الخارجية(المثيرات البيئية الخارجية)وهنا تصبح العلاقات بين الذات والآخر بعيدة عن تفجير النرجسية،فدعاة السلم والمسالمة واللاعنف هم من اكثر الناس بعداً عن النرجسية وحب الذات وتقول ادبيات علم النفس ان التفجير النفسي الداخلي يكون عادة مصدراً للشعور بالاحباط ومن ثم للعدوانية بتجلياتها واساليبها المختلفة.

  اما العدوانية والعنف فلها دوافعها واسبابها النفسية والعقلية والبيولوجية والاقتصادية وحتى التكوينية النشوئية التي تنطلق من الذات ويقول علماء التحليل النفسي ان من اخطر هذه العوامل هي العوامل الداخلية المتصلة بشخصية العدواني،فهو يتميز بضعف"الانا"مع وضوح كامل في عدم النضوج فضلا عن شذوذ الانا الاعلى والضمير الذي يغلب ان يكون بدائياً وسادياً،وكون العلاقات مع الاخرين تتكون غالباً على اسلوب من العنف الواقع على الذات او الواقع على الغير.

 ان العدوانية هي تغيير يحرك الدوافع ،هذا التغيير يتذبذب بين مشاعر القدرة على كل شئ ومشاعر النقص،وهي بنفس الوقت عدوان موجه نحو الذات اولاً قبل الآخرين وهو انتقام منها وليس لها،وليس من العسير ان تفهم الاسباب في استحالة تطابق دوافع المسالمة واللاعنف والتسامح ودوافع العنف والسلوك العدواني الكامنة وراءه،وخلاصة ما نستطيع قوله ان معرفة المسالمة واللاعنف معرفة ترتبط بادراك الذات وادراك الآخر وعلاقة الذات بالاخر،وهي موهبة و قدرة تحتاج الى صقل مستمر واضافات نوعية في تراكم الاصالة في النفس الانسانية.

*استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -االخميس 11/ اب/2005 -5/ رجب/1426