لم
تعد المقابر الجماعية رمزاً لقضية الاضطهاد والمعاناة ورمزاً لعصر من
القهر والظلم ودليلاً على وحشية الديكتاتورية تجاه فئة اجتماعية
ومذهبية بعينها بل اضحت رمزاً ومؤشرا ً لانتماء اجتماعي انساني ذلك هو
الانتماء الى التشيع ببعده الانساني الاجتماعي وليس العقائدي.
وبكلمة أخرى باتت المقابر الجماعية رمزاً وبنفس الوقت دليلا ً على
انتماء جماعة من الناس الى بيئة اجتماعية واحدة نعني بها البيئة
الشيعية ومن هنا اصبحت تلك المقابر هولوكوست الشيعة بكل ما تعنيه هذه
المفردة من مضامين نفسية واجتماعية وسياسية.
وباتت تشير الى هوية اجتماعية لمجموعة بشرية ذات بعد حضاري ترتبط
فيما بينها بوشائج اجتماعية وتأريخية ودينية تلك المجموعة البشرية هي
شيعة العراق التي اضحت بحكم المعاناة والمأساة التي تعرضت لها خلال
عقود طويلة مجتمعا ً او كتلة ً اجتماعية ً لها خصوصياتها التي تميزها
عن الاخرين كما تتميز الاقوام عن بعضها البعض.ومن هنا نجد ان المقابر
الجماعية امست خصوصية يتميز بها شيعة العراق وهوية يفترقون بها عن
الآخرين.
ان العقل المدبر لهولوكوست الشيعة (المقابر الجماعية) كان يرمي الى
استهداف الشيعة سكان العراق الاصلاء ككيان اجتماعي قبل اي شئ آخر بمعنى
انه ومنذ اللحظات الاولى لأنطلاقة مشروع التصفية الطائفية على يد منظره
الاول (ساطع الحصري) وضع بالحسبان استهداف الشيعة كأنتماء اجتماعي
وسياسي قبل ان يكونوا انتماءا عقائديا يقوم على اساس مولاة اهل البيت
والتشيع لعلي بن ابي طالب عليه السلام.
واذ حالت الظروف في العهد الملكي دون تطبيق الحصريين لبرنامجهم
العنصري الأستئصالي تجاه الكثرة الكاثرة اي الشعية فأن الصدامية وجدت
الفرصة متاحة لتطبيق (النظرية الحصرية) التي تقوم على اساس التصفية
الطائفية للشيعة وتشتيتهم في المنافي (الدياسبورا) وقتلهم بشكل جماعي
من اجل القضاء عليهم كأكثرية اجتماعية وسياسية واستبدالهم بآخرين
ينتمون مذهبيا الى نفس مذهب السلطة الحاكمة لغرض معالجة عقدة الاقلية
التي تعاني منها السلطات الحاكمة.
وبالرغم من ان الشيعة مثلوا خطا ً معارضا ً للسلطات التي استولت على
الحكم منذ (سقيفة بني ساعدة) والى يومنا هذا الا ان تلك المعارضة
والممانعة كانت ذات صبغة عقائدية محضة تقوم على اساس لا شرعية الحكم
لغير الائمة من اهل البيت عليهم السلام وتدور في فلك البعد العقائدي
لهذه القضية ولا تتعداه الى الجوانب الاخرى ومنها الاجتماعي على وجه
التحديد.
غير ان تراكم الاحداث والمصائب على الشيعة بلور لديهم وعيا ً وفهما
ً جديداً لطبيعة الصراع مع السلطات التي توالت على حكمهم في العراق
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة والتي شُيدت على أُسس علمانية يفترض
بها ان تبتعد عن الجانب الديني والعقائدي في تعاملها مع رعاياها
وتتعامل معهم على اسس المواطنة والمساواة امام القانون غير ان شيئا من
ذلك لم يحصل وأستمرت النظرة الموروثة ذاتها الى الشيعة تلك النظرة
الدونية التي هي من مخلفات الدولة العثمانية التي حكمت باسم الخلافة
الاسلامية والتي كانت تعامل رعاياها على اساس انتمائهم المذهبي والديني
وليس على اساس حق المواطنة التي تتميز بها الدولة العصرية.
هذا الوعي الجديد فرضته عليهم تلك الانظمة التي اغتصبت حقوقهم
وهمشتهم لدوافع سياسية في جانب كبير منها مما أصلَّ في الواقع الشيعي
حقيقة كون الشيعة انتماءاً اجتماعياً وسياسياً له خصوصياته التي تميزه
عن الاخرين وان كان نسبة من الشيعة انفسهم في العراق لم يلتفتوا الى
هذا الانتماء حتى ساعة الكشف عن مأساة المقابر الجماعية التي نفذت في
العهد الصدامي بعد ان خطط لها منذ العهد الملكي على يد الجماعات
الطائفية الانكشارية المستعرقة وياتي في طليعتها المفكر (ساطع الحصري)
والذي نجح في ترسيخ نظرياته الشوفونية الطائفية في الواقع السياسي
والتربوي العراقي وحولها الى مدرسة وُعرف غير معلن في ذلك الواقع بعد
ان استطاع ان يمسك بمفاتيح المناهج التربوية والتعليمية للعراق يوم كان
مسوؤلاً في وزارة المعارف.
ان عدم التفات نسبة من الشيعة الى حقيقة كونهم انتماءاً اجتماعياً
لا يلغي او يُقلل من تلك الحقيقة. فسياسة غسل الادمغة(Brainwashing)
التي تعرض لها شيعة العراق ضمن خطة محكمة وبرنامج طويل الامد وُضع لهم
سلفا وانخداع بعضهم بالافكار والنظريات الدخيلة على واقعهم الانساني
كالنظريات القومية لغرض مسخهم وتخَّوف البعض الاخرمن الاعلان عن هويته
الاجتماعية خشية اتهامه بتهمة (الشعوبية) والطائفية التي نجح اعداء
الشيعة في لصقها بهم ومن ثُم تقزيمهم وجعلهم يعيشون الازدواجية
وممالاة بعض الشيعة للسلطات كل هذه الاسباب وغيرها حالت دون انتشار
الوعي المطلوب بالذات الشيعية الاجتماعية او الهوية الاجتماعية لشيعة
العراق.
والشئ بالشئ يذكر انه وبحكم ما تقدم راح بعض الشيعة يتنكرون
لانتمائهم الاجتماعي ويتهربون من الافصاح عن هويتهم الاجتماعية اي
كونهم مجتمع قائم بذاته اسمه المجتمع الشيعي وتمثل هذا التهرب بأعتناق
الفكر القومي واجترار المفاهيم القومية العنصرية التي يبشر بها اعداء
الشيعة لأغراض طائفية صرفة دون الكشف عن ذلك. لقد نجحت السلطات في
تدجين نسبة من الشيعة وجعلهم العوبة واداة طيعة تضرب بها الشيعة ذاتهم
ضمن سياسة استخدام الضد النوعي ,واصبح على الشيعة نتيجة التضليل
الاعلامي والحرب النفسية التي شنت ضدهم تقديم صك الولاء والوطنية
للسلطات من خلال اعتناقهم الفكر القومي اوالعروبي والتطرف فيه من اجل
دفع تهمة التبعية والشعوبية التي لصقت بهم عبر السنين على ان كل ذلك لم
يشفع لهم عند تلك السلطات التي ظلَّت تنظر اليهم نظرة ازدراء واستخفاف.
والان وبعد سقوط صنم الديكتاتورية بات لازما على الشيعي الافتخار
بانتمائه الإجتماعي ذلك الانتماء الذي افرز واقعاً سياسياً جديداً في
العراق بات من الضرورة بما كان التعامل معه بواقعية. ومن هنا تأتي
مطالبة الشيعة بالفيدرالية للمناطق الشيعية والتي تشمل المحافظات العشر
بالاضافة الى بغداد مطلباً مصيرياً وعلى القادة الشيعة عدم التفريط به
تحت اي ذريعة او مسمى. كما انه يمثل انعكاساً صادقاً وعفوياً للانتماء
الحق للخصوصية وللهوية الشيعية والتي كشفت عنه المقابر الجماعية التي
اضحت بحد ذاتها خصوصية تستحق من اجلها ان يجتمع الشيعة بفيدرالية تحفظ
لهم هويتهم المذهبية وتراعي خصوصيتهم الاجتماعية.
ان التصريح الذي ادلى به بعضهم ممن فقد امتيازاتهم السياسية بفعل
عملية التغيير التاريخية التي شهدها العراق والذي جاء رداً على
الفيدرالية التي يطالب بها ابناء المقابر الجماعية من (انهم يتفهمون
خصوصية كردستان ولا يرون مبررا لفيدرالية اخرى غيرها) اقول ان هذا
التفهم تفهم اعور نابع من حَوَل سياسي لانه وبكل بساطة الخصوصية
المتواجدة في كردستان والتي تخول لأهالي هذا الرقعة الجغرافية التحلي
بحقهم الشرعي بالفيدرالية هي نفسها لدى ابناء المقابر الجماعية الذين
يتواجدون على رقعة جغرافية محددة من العراق السياسي الحديث والتي تمتد
من سامراء وحتى أم قصر اي ما يعرف بالعراق التأريخي او العراق الشيعي.
ان الخصوصية في العادة يحددها أصحاب العلاقة المباشرة و لا يهبها
أحدٌ منة ً أو تكرما. فما يجمع الأكراد هو شعورهم الجمعي الذي تسهم في
إثرائه عوامل عدة قد يكون أبرزها الرابط العرقي, و لكن هناك رابط آخر
يجمعهم في خندق سياسي واحد مقابل الخنادق الأخرى, هذا الرابط هو تناثر
جثث أطفالهم و نسائهم في حلبجة, والانفال التي إلتهمت مئات الألاف من
سكان القرى و القصبات الآمنين. وهو ما لا يختلف عن حال الشيعة من حيث
الخصوصية حيث الرابط المذهبي بدل العرقي.
فبعد سقوط النظام راح الأكراد يبحثون عن أحبتهم في سجون و معتقلات
صدام, و لم يكونوا الوحيدين في هذه الخصوصية. فالشيعة هم أيضاً هبوا
للبحث عن رجالهم وأطفالهم و نسائهم الذين إنقطعت أخبارهم منذ سنين عدة.
و كذلك من صرح بأنهم (يتفهمون خصوصية كردستان و لا يرون مبرراُ
لفيدرالية أخرى غيرها) هؤلاء كانت لهم خصوصية ايضاً ولكن من نوع مختلف.
فخصوصيتهم تكمُن في أنه لم يسمع لهم بمقابر جماعية ولم يكتوا بنار
الظلم الذي اكتوى به الكورد والشيعة وان كان هنالك من ظلمٍ مسًّهم فهو
ظلمٌ لأفراد بذواتهم وليس ظلما ً لقوميةٍ برمتها (الكورد) او لطائفةٍ
بكاملها (الشيعة). ومن هنا يأخذ أبناء المقابر الجماعية العجب من مقولة
أن صدام وزعَ ظلمه بالتساوي على العراقيين !.
لم تعد شعارات الوحدة الوطنية او الاسلامية تنطلي على احد ومن يريد
ان يحافظ على وحدة العراق فعليه الاقرار بالواقع السياسي الذي سعت
السلطات الطائفية العنصرية السابقة الى التعتيم عليه بعناوين مختلفة
حيث استحوذت على الحكم والثروة. واليوم من يطمح للمشاركة في الحكم من
الاقلية عليه ان يتنازل عن المطالبة بالثروة التي لا يملكها اصلا لفقر
اراضية اذ ولى الزمان الذي يجمع فيه السلطة والثروة معا ويمنعهما عن
اصحابها الحقيقيين .
وخلاصة القول ينبغي تطبيق مبدأ مقايضة الثروة بالسلطة لمن لايملك
ثروة في اراضيه اذا ارادَ المشاركة بالحكم.اي المشاركة بالسلطة مقابل
التنازل عن الحصة بالثروة والعكس صحيح اي من يريد حصة من ثروة ابناء
المقابر الجماعية فعليه ان يتنازل لهم عن الحكم اذ من غير المقبول ان
يحكم من لايملك او من يعيش على ثروات الآخرين.
ونقول لمن يبحث عن خصوصيات يبرر بها الفيدرالية ان المقابر
الجماعية خصوصية الخصوصيات ومن يرفض فيدرالية ابناء المقابر الجماعية
ويطمح في مشاركتهم بثرواتهم فدونه خرط القتاد.
almossawy@hotmail.com |