إن سبب ظهور الجماعات والتجمعات التي انتهت الى نشوء الكيان المسمى
المجتمع ، كان نتيجة لحاجة الأفراد إلى مواجهة التحديات الطبيعية
والمخاطر ، التي تهدد حياتهم ، فكان التطور يتناسب طردياً مع حجم
الحاجة إلى وجود تنظيم يواجه التحدي، واليوم لنا المثل في فكرة العولمة
والحاجة تجاه معالجة الأخطار الناجمة عنها، وكيف تتحد الشعوب جميعاً
بغض النظر عن أوصافها وأجناسها تجاه مكافحة تلك الأخطار، ودرئها إن
أمكن لهم ذلك . ومن أهم وسائل المعالجة كانت الحاجة إلى وجود سلطة
مركزية تقود وتنظم المجتمع التي بدورها أوجدت القوانين واللوائح
والتعليمات الآمرة التي تتصف بعنصر الإلزام الذي يرتب الجزاء على من
يخالفه .
وهكذا فان المجتمع يتمتع بقابلية وإمكانية ذاتية إلى إيجاد البدائل
للمعالجة ، او يتوفر على عناصر الحماية الذاتية ولنا في آية الله
العظمى المتمثلة بالإنسان حينما أوجد فيه نظام حماية ذاتية متكاملة
تنهض حينما تستشعر وجود الخطر الذي يتعرض له الجسد ، ولكن إن كان الخطر
أكثر واكبر من وسائل الدفاع التي تكون عندها بمواجهة الخلل في الموازنة
نلجأ إلى إعادة التوازن من خلال استخدام قوى خارجية كالمضادات الحيوية
او ما شابه ذلك .
وهذه المقدمة تقودنا إلى أن مجتمعنا كان منذ القدم ، هو الأول في
التنظيم والترتيب سواء عن طريق منظوماته التي أبدعها العقل العراقي ،
او تلك التي آمن بها كمعتقد ومنها الشريعة الإسلامية السمحاء ، إلا
إننا نلاحظ وبعد التحولات الزلزالية التي حلت بالعراق ذلك الانهيار
الشامل لكل أوجه السلطة ، مما أدى إلى ظهور نتائج سلبية سواء كانت
ناجمة عن تصرفات الداخل او القادمة من الخارج نتيجة لتفاعل المعادلات
السياسية الإقليمية والدولية وحتى العقائدية .
واهم ما لاحظناه ظهور حالات الخطف التي لم تكن في السابق إلا نسبة
لا تكاد تحسب من معدل الجرائم في العراق ، وكذلك اتسمت هذه الحالة بما
يثير الريبة في تجاوز الحالة الجنائية لفعل الاجرام المرتكب الى اغراض
سياسية او عقائدية ذات نتائج هدامة شاملة لكل البنى المكونة للمجتمع
العراقي ومنها ظاهر خطف العقول الفاعلة والكفاءات العلمية في العراق ،
ومن ذلك خطف الاطباء تلك التي نرى الهدف منها ترك المجتمع العراقي
عليلاً لا يقوى على مقاومة تلك المخاطر فيحقق الأغراض والأهداف الأخرى
التي قد لا نلمسها او نعلمها الان .
فهذه الظاهرة لو تمكنا من تحليل عواملها لوجدناها لا تتعدى عن كونها
حلقة في سلسلة تهدف الى تحقيق ما قاله رئبس النظام المخلوع حينما قال
(إن تركت العراق سأتركه تراباً) وهذه تمثل فلسفة لفئة تدين بالشيطان
هدفاً ووسيلة ، فانتم تعلمون إن الإنسان بلا عقله او روحه فهو أدمة
متكونة من تراب على وفق ما جاء بكتاب الله المجيد ، فاذا سلبت العقول
المسيرة للمجتمع فان المجتمع سوف لن يكون الا مجموعة أصنام مخلوقة من
صلصال لا تذر ولا تنفع.
فلذلك ان غرض هذه العمليات هو هدم المجتمع، لكن ولطبيعة كل
المجتمعات على توفر الحماية الذاتية والقدرة على التحول الآني لمقاومة
الأخطار، فان المجتمع العراقي قد أوجد الكثير من المعالجات إلا أن تعدد
الأساليب وتنوع الجهات ، لم يعطي الفرصة الكافية لدرء الإخطار جميعاً .
لكننا على يقين إن هذه الأحوال سوف لن تبقى وان زوالها بات وشيكاً
إنشاء الله .
وفيما يتعلق بالجانب القانوني المتعلق بالمعالجة حول هذه الحالة
أتقدم بتعريف لجريمة الخطف والأحكام التي تنظمها في التشريعات النافذة
وكما يلي :-
اولاً- جريمة الخطف وكما عرفتها شروح الفقهاء ، هي التي تتعدى على
حرية الإنسان وبحجزه كرهاً عنه ومنعه من ممارسة أوضاعه الحياتية
الاعتيادية وكذلك بإجباره على القيام بأفعال يأتيها كرهاً .
ثانياً-
أ_ أما الأحكام القانونية فإنها تتمثل في الفصل الأول من الباب
الثاني من قانون العقوبات المرقم 111 لسنة 1969 المعدل . وتنحصر في
المواد (421 -427) ق.ع . وتتلخص تلك الاحكام بفرض عقوبة تصل الى
الاعدام بالنسبة لمرتكب جريمة الخطف على وفق التعديل الأخير الصادر من
مجلس الوزراء المؤقت .
ب- هناك اوصاف متعددة متعلقة بشخص الجاني وبشخص المجني عليه والظروف
المحيطة . وانها ترتبط بفرض العقوبة ولا تتعلق بالوصف العام للجريمة
لانها كلها جريمة خطف .
ج- هناك اوصاف اخرى تتعلق بالحجز الصادر من صاحب السلطة وممارسته
لتلك الصلاحية خارج نطاق القانون فهذه لها اوصاف وتوصيفات اخرى عالجتها
احكام الفصل الثالث من الباب الاول وفي المواد 322 وما يليها ، وهذه لا
تصل الى حد التماثل مع الجرائم الخطف المشار اليها في اعلاه .
ج _ هناك بعض الامور التي تصدر من الجناة ولكنها لا ترتقي الى
مستوى التنفيذ الفعلي للجريمة سواء كانت الموانع ناشئة عن تراجع الجناة
او استحالة التنفيذ لوجود قوة خارجية تمنع حدوث تلك الجرائم كوجود قوة
او افراد حماية تمنع تلك الجرائم ، فهذه لم تترك سدى بل نظمها القانون
وعلى وفق ما يلي :-
1. الشروع وهذه وكما عرفها فقهاء القانون، البدء بالتنفيذ ولكن
ظهور قوة خارجية تمنع استمرار التنفيذ، ولم تتحقق النتيجة التي سعى
الى تحقيقها الجاني، وهذه تسمى جريمة الشروع بالفعل وتختلف من حيث
الحكم عن الفعل التام المرتكب وتحقق العقوبة على اساس ذلك .
2. احياناً لم يصل الامر الى تهيئة الوسائل او الشروع في
التنفيذ، وانما لمجرد الاتفاق على القيام بالفعل الجنائي الذي جرمه
القانون، فاما المشرع لم يترك ذلك الامر دون معالجة حيث رتب عليه اثر
قانوني ،وسميت تلك الحالة بجريمة الاتفاق الجنائي المنصوص عليها في
المادة 55ق.ع وهذه، تتمثل باتفاق شخصين او اكثر على القيام بجريمة
معينة فعندما يصل الموضوع الى علم السلطات المختصة فان هؤلاء تتم
معاقبتهم على وفق ما جاء بالقانون وتصل الاحكام الى حد العشر سنوات .
وهناك جدل فقهي حول الجرائم التي يشملها ذلك النص ، الاتفاق
الجنائي، حيث يرى البعض انها تتعلق حصراً بجرائم السرقة والتزوير
والاحتيال بينما ترى الأكثرية ان الامر يتعلق بالاتفاق الجنائي في
الجنايات جميعها والجنح المتعلقة بجرائم السرقة والاحتيال والتزوير ،
وحيث ان جرائم الخطف من الجنايات فانها تقع ضمن منطوق هذه المادة
ويحاسب القانون على أي اتفاق جنائي يندرج ضمن ذلك الوصف .
ومما تقدم نرى ان التشريعات النافذة قد استوعبت كل ما يمكن لنا ان
نتصوره تجاه معالجة هذه الحالة ، لكن السؤال الذي ينهض إذا لماذا هذا
التردي في الأوضاع المتعلقة بجرائم الخطف .
الإجابة وكما اراها بشكل متواضع تتعلق بالاوضاع القائمة التي يمر
بها البلد ، وتتلخص اسباب التردي بضعف اجهزة السلطة وانتشار ثقافة
الجريمة ويمكن لنا ان نحللها بشكل مقتضب وبنقاط رئيسية وكما يلي :-
1. ضعف اجهزة الشرطة حيث لم نجد جهاز تنفيذي قوي يتمكن من متابعة
اوكار الجريمة ومحاربتها وهذه ناجمة عن :-
أ- انهيار الجهاز الامني بعد احداث 9/نيسان .
ب- ان الجهاز الامني كان مخصص اصلاً في عهد النظام السابق لحماية
النظام البائد دون ان يحمي المجتمع ، وان توفرت الحماية فانها على هامش
الهدف الاساس، فان توفر اجهزة الامن والاستخبارات والمخابرات وخلايا
الحزب المنحل والجيش الشعبي وجيش القدس و غيره من التشكيلات ، فهذه
الكوادر بعد ان انهيارها في احداث 9/نيسان/2003 ذابت من جديد في اوصال
وزارة الداخلية فكانت ضعيفة تجاه حماية الناس لانها مثقفة ومدربة على
حماية سيدهم الطاغية .
ج- وجود عناصر مرتبطة بالعصابات الاجرامية في مفاصل مهمة من اجهزة
وزارة الداخلية فكانت هذه عوامل لتطور الجريمة بدلاً من تقوية اجهزة
الامن العراقي .
د- ان بعض العناصر الاخرى المرتبطة بالنظام السابق فانها وخصوصاً
التي كانت تعمل في صفوف الاجهزة الامنية او الحزبية فانها تعتقد بان
المجتمع عدوها الاول للإحساس الذاتي بطبيعة الأذى الذي ألحقوه بالمجتمع
خلال فترة عملهم مع النظام السابق ، لذلك تراها تعمل على خلق الفوضى
وإبقاء الناس في شغل شاغل يبعدهم عن التفكير في محاسبتهم ، مما يخلق
لهم الأجواء، التي بموجبها يعيدون تشكيل قواهم من جديد ويعملون على
تهديد امن المجتمع ومن ثم هدمه .
ه- انتشار ثقافة الجريمة التي اسس لها النظام السابق فاننا نرى ان
الطفل اول ما ينشئ يدفع به النظام الى التدريب العسكري ودفع الرهبة من
سلوك الطفل تجاه السلاح ، مما يدفعه الى التعامل بعدوانية مع الاسلحة
وبدون أي تردد او خشية او تحسب للعواقب، فلجهله وانعدام الشعور
بالمسؤولية الناجم عن الأمية المستشرية في البلد وصغر سنه والتسيب
الأمني ، فانه يكون عدوانيا وساعياً لارتكاب الجريمة ووسيلة سهلة
المنال من قبل الجهات التي لا تريد الخير لهذا البلد .
فهذه الأمور هي نزر يسير مما قد يتبادر له الذهن حينما يحلل طبيعة
تلك المشكلة، إلا إننا نتغافل أحيانا عن طرح العلاج ونكتفي بالتشخيص
وارى في هذا المجال جملة من الطروحات التي يمكن لنا إن ننهض بالمجتمع
من خلالها ونقضي ولو نسبياً على الجريمة في بلدنا وكما يلي :-
1. تشكيل أجهزة حماية ذاتية مرتبطة بوزارات متعددة ومسلحة
بوسائل حماية متطورة تنسجم مع حجم الوسائل التي يستخدمها المجرمون .
2. الاستمرار في تشخيص حالات الخطأ في دوائرنا ووزاراتنا لأننا
ان امتثلنا لطلبات هؤلاء سوف لن نحقق ما نسعى إليه .
3. السعي الى نشر الثقافة الإنسانية والاسلامية بين الناس .
4. دراسة الموضوع من قبل علماء واطباء النفس البشرية وطرح
الحلول والعلاج لها . وخصوصاً طب المجتمع الذي اتمنى ان لا يقتصر على
الامراض العضوية التي تصيب الجسم بل الى الامراض الاجتماعية المتعلقة
بالسلوك العدواني الفردي او الاجتماعي .
5. التقليل من الاسعار التي غالى بعض الاطباء في فرضها على
المرضى في ظل الضائقة المالية التي يعاني منها ابناء المجتمع، في
محاولة لايجاد رد فعل عكسي تجاه هذه الحالة التي ساهمت في تطور المشكلة
.
وفي الختام اتمنى ان ينعم الاطباء كما ابناء المجتمع بالامن والامان
.
*ورقة عمل مقدمة إلى المؤتمر الذي عقدته وزارة الصحة في أيلول عام
2004 حول خطف الاطباء |