لنا
ان نتحدث كثيرا عن مسائل قيَميّة تمس الفرد كإنسان يتساوى مع الآخرين
من حيث الخِلقة لا من حيث العقيدة كما يقول الامام علي بن ابي طالب(ع):
"الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلقِ" لكننا في
أحايين عدة نعجز عن تحويل النظرة الاسلامية الى منهج حياة فيستعدي
بعضنا بعضا بلحاظ الاختلاف في الدين او المعتقد، ويستفحل الاستعداء
المزودج حتى وان كنا نقف جميعا على ارضية عقيدية واحدة لمجرد الاختلاف
في المذهب او المدرسة الفكرية.
في خضم هذه المناكفات وهي كأعجاز نخل خاوية مبتورة الجذور، موتورة
الاصول، نتناسى الصور القيمية التي يبثها الاسلام في قلوب مؤمنيه
ويدعوهم اليها، ونستحضر الصور القاتمة المتشظية من أفعال الرجال لا من
النصوص المقدسة المتواترة، فصار البعض يجعل تصرفات الرجال مقياسا
للسلوك جاعلا الحق واهله وراءه ظهريا، فيُخطّأ النص ولا يُخطّأ الرجل،
يُقَّدس الرجل وتنزع عن النص عصمته، يُكرم الشخص ولا تُكرم الحالة،
يُهان الشخص ولا تُهان الحالة، وهناك من يقف طويلا مسلطا الضوء على
الشخص المعني بالحالة، صحيّة كانت او مَرَضية ولا يتوقف عند الحالة
لتعميمها لحسنها ووأدها في مهدها لسقمها، ينظر الى التراث كصنم لا يغني
ولا يسمن من جوع ولا يحاكيه كجسد يتنفس عبرة وعظة، تجري في عروقه دماء
نابضة بالحياة.
لا يحتاج المجتمع الى قراءة متأنية لحاضره فحسب، فهو بمسيس الحاجة
الى روح الأوائل الذين يمرون على الشخصانية مرور الكرام ويقفون طويلا
عند الحالة او الظرف او الظاهرة، فالتراث بنك للتجارب وخزين من الرسائل
غير المقروءة تبحث عن من ينزع عنها شمع النسيان الأحمر ناشرا عليها ضوء
المعرفة لاستلهام العبر. ومن ذلك ان الامام علي (ع) عندما رأى شيخا
يتكفف الناس باسطاً اليهم يده، غضب (ع) للشخص وللحالة معاً وركز طويلا
على الحالة فأشار بعين الغضب الى المشهد الذي تراءى أمام ناظريه وهو
حاكم دولة عظمى، قائلا بتعجب: ما هذا؟!، ولم يقل (ع): مَن هذا؟ كعادة
البشر الذين ينتصرون للشخص ولا ينتصرون للحالة، والفرق كبير بين (مَن)
و(ما)، فما يهم بناء المجتمع وديمومته هو الحالة والظرف، فالحالة وان
حُلّيت بألف ولام المعرفة، لكنها تبقى على الارض وفي واقع الحياة نكرة
لا تعرف شخصا بعينه، لان لها ان تصيب هذا الرجل او تلك المرأة وهذه
العائلة او تلك الاسرة، ويمكن ان تصيب الشخص الذي يظن انه بمنأى عن
الوقوع في شباك الحالة، خيرها او شرها.
وفي الحياة هناك اشخاص بلحم وشحم ودم يمثلون قيمة الخير وخصلة الشر،
وهم وإن بلغوا من العمر عتيا لا محالة ميتون لان سنّة الحياة الزوال
وان الله قهر عباده بالموت والفناء "انك ميت وانهم ميتون" (الزمر: 30)
كما في حديث الرب لنبيه الاكرم محمد (ص) لكن ما يتركه ممثلو الخير
والشر في الامة وعلى بساط البشرية من اثر سلبيا كان او ايجابيا، ظلاميا
كان او نورانيا، هو المعني بكل تصرفات البشر وهو الخاضع للبقاء او
الفناء ولهذا ورد في الأثر عن النبي محمد (ص): "مَن سنّ سنّة حسنة كان
له أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة ومَن سنّ سنّة سيئة كان عليه
وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة".
فالسنن الحسنة التي يتعامل بها الناس اليوم وفي المستقبل انما هي
مندكة في التاريخ وعمقه، وكذا سنن الشر، فلا يمكن الانقطاع عن الماضي
بحلوه ومرّه، فسجلات الماضي مرآة اليوم وكتاب المستقبل، تعود اليها
الاجيال كلما احتاجت الى تلمس طريقها تستقرأ من بين سطورها ما يعوزها
في الحياة اليومية على كل الصعد، ولهذا جرت القاعدة على لسان الفقهاء
في اسباب نزول الآيات او صدور النص الشريف عن المعصوم ان: "العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:، فالحكم الذي يتضمنه النص لا يكون مقتصرا
على الحادثة ومَن نزل او قيل فيه النص الشرعي، فالحكم عام، ذلك ان
العبرة ليس بخصوص سبب النزول او صدور النص وزمانه، وانما المدار هو
الحالة او الظاهرة.
والامم الناجحة هي التي تعمل على نمو الحالة الايجابية وتعميمها،
وتمنع نمو نقيضها او ظهورها، فعلى سبيل المثال يستذكر المجتمعان
الألماني والإيطالي فضائع النازية حتى يحولا دون ظهور هتلر آخر او
موسوليني ثان، فالمجتمعان الألماني والايطالي بخاصة، والمجتمعات
الاوروبية بعامة، تتذكر كل عام هتلر وموسوليني واضرابهما من اجل قطع
الطريق على بروز نظائرهما من المستبدين.
من هنا تقدمت هذه المجتمعات ورجعت غيرها القهقريا حيث توقفت عند
(مَن) الرجال ولم تنتقل الى (ما) الفعال.
والبلاد الاسلامية والعراق منها الذي يستعيد عافيته على مهل، غزيرة
الصور الصامتة شحيحة العبر الناطقة، وهذا أول الإنحدار!
فالعبرة بـ (ما) الناطقة لا (مَن) الصامتة.
alrayalakhar@hotmail.com |