من
مفارقات القدر أن النموذج التركي أصبح هو الحلم الذي يداعب خيال جماعة
الإخوان المسلمين ويلهب قريحة الباحثين عن مدى التقارب بين النموذجين
وإمكانية أن ينال الإخوان نصيبهم في موسم التنزيلات الديمقراطية الكبرى
القادمة.
المفارقة الكبرى أن جماعة الإخوان أرخت لبدء ظهورها كرد على قيام
أتاتورك بإسقاط الخلافة العثمانية ويومها لبس إمام الإخوان قفاز التحدي
وأنشأ جماعته لتحمل مهمة التصدي لإعادة فردوس الخلافة التركية المفقود.
الإسلاميون في تركيا (أصحاب المصيبة والأولى بالبكاء عليها) لم
يضيعوا وقتهم في البكاء على اللبن المسكوب ولم يؤسسوا جماعة للإخوان بل
اختاروا السير في الطريق المتاح لهم فكان أن سبقت السلحفاةُ الأرنب
المغرور.
المفارقة الكبرى الثانية أنه في نفس الوقت الذي أقر فيه الأتراك
العلمانيون مبدأ التعددية الحزبية عام 1946 كان الأرنب المغرور يطالب
بحل جميع الأحزاب المصرية وتأسيس الحزب الواحد تمهيدا لإقامة دولة
الخلافة الكبرى بل ويتأهب للانقضاض على هذه التعددية وكان أن تحقق له
ما أراد من خلال الانقلاب الذي نفذه عساكره الأحرار وبقي الأرنب
المغرور بعدها عامين ينتظر أن ترد إليه أمانته وكان ما كان من سجن وقتل
وسحل وقرار الحل والباقي معلوم.
المفارقة الكبرى الثالثة: أن تركيا العلمانية التي مارست الفصل
التام بين الدين والسياسة لم تعرف تلك الحالة من التطرف الديني الذي
ترفل فيه الآن مصرنا أم العجائب الذي يصل إلى حد الهوس والتي أعمت تلك
القيادات عن انتهاز الفرص المتاحة للسير في طريق الإصلاح السياسي (أيام
السادات نموذجا) وانشغلت بتكفيره وشتمه ومحاكمة نواياه واتهامه
بالعمالة إلى أن انتهى الأمر بقتله حيث هلل الجميع من دون أن يدركوا
أنهم ذبحوا واحدة من أهم الفرص التي أتيحت لهم لاستعادة الحياة
السياسية الحزبية والعاقبة في المسرات.
ورغم أننا لا نرى بالضرورة في النموذج التركي القدوة والمثل في
التعامل مع الدين إلا أنه من الضروري أن نبدي تحفظنا أيضا على النموذج
المصري الذي يفتي فيه كل من نبتت له لحية في السياسة فضلا عن الدين
باعتبار أن هذا حق طبيعي وأمر مفروغ منه في بلد السيادة والريادة
الدينية والإعلامية.. أليست مصر هي أم الدنيا؟!.
بماذا نسمي ما قام به ذلك الشيخ الذي أفتى بحرمة التعامل مع مجلس
الحكم العراقي ثم تبين أنه ليس مؤهلا للفتوى لأنه لم يحصل على درجة
مدير عام؟؟!!.
إنه نموذج يحمل ما يكفي من الدلالة على أن البعض يتصرف وكأن دولة
الخلافة قد قامت بالفعل في مصرنا أم العجائب وكان على هؤلاء أن يخبرونا
من هو مدير عام شئون العراق في وزارة أوقاف الخلافة المصرية.
ونحن لا نعترض على أن يعمل شيخ ما بالسياسة أو أن يكون خبيرا فيها
أو حتى رئيسا للجمهورية ولكننا نعترض على أن تتحول المنابر الدينية إلى
منابر حزبية وأن يجري تسخيرها لأغراض المماحكات السياسية والصفقات
الحزبية والأخطر من هذا أن يتصور شيوخ الجماعات أو شيوخ الأزهر الذين
يتنافسون فيما بينهم (من يكون الأعلى صوتا) أن دولة الخلافة قد قامت
بالفعل في مصر لا لشيء سوى أن البعض يأتي للدراسة في الأزهر وأن البعض
الآخر يحمل لقب (إسلامي) وكأنه أصبح علامة مسجلة باسم الجماعة الأم
وتلك هي الطامة الكبرى.
المناخ الديني في مصرنا (أم العجائب) هو النقيض المطلق للمناخ
السياسي في تركيا العلمانية والذي أملى على من يريد أن يعمل بالسياسة
أن يشكل حزبا وأن يبحث له عن مقر بدلا من أن يكتفي باجتماعات المساجد
وأن يتلقى طلبات انضمام الأعضاء لا أن يأخذ البيعة منهم على المصحف
والمسدس في حي الصليبة أو حتى في مصر الجديدة.
التطرف الديني وإن شئت الدقة المزايدات الدينية هي التي جعلت من
المساجد أماكن للصراخ السياسي والصوت الزاعق والكل يزايد على الكل
فشيوخ الحكومة يزايدون على شيوخ الإخوان وشيوخ الجماعة يزايدون على
هؤلاء وهؤلاء ولا أدري ماذا بقي للمفكرين والساسة أو لمقرات الأحزاب.
وهكذا فإن المقارنة بين النموذجين الإخواني والتركي تكشف عن أن
الأتراك لم يصبهم مرض تأسيس الجماعة الشاملة ذات الفهم الشامل الكامل
التي يقودها إمام قديس حيث انفصل حزب العدالة والتنمية عن الأب المؤسس
لحزب الرفاه نجم الدين أربكان كما أن هذه الأحزاب لم تؤسس جيشا إسلاميا
كهذا الذي أسسته جماعة الإخوان حيث بقيت كوادر هذا الجيش تدير العمل
السياسي بعد (التحول السلمي) يضاف إلى ذلك أن حزب العدالة والتنمية هو
حزب تعددي يتشكل من فصائل متنوعة تجمع بين التوجهات الليبرالية
والمحافظة والمعتدلة والمعنى واضح وهو أن العمل السياسي هو عمل دنيوي
وله طبيعة تختلف اختلافا كليا عن ذلك العمل الطقوسي الكهنوتي الذي
اعتمدته تلك الجماعات ذلك العمل القائم على السمع والطاعة المطلقة.
صاحب المصيبة أولى بالبكاء عليها
السؤال المطروح الآن وهو هل يتعين منح التيارات الإسلامية التي نبذت
العنف الفرصة لتصبح جزءا من اللعبة الديمقراطية هو سؤال غربي 100%
والمعنى أن الغرب قد طرحه على نفسه وقام بالرد عليه في إطار تحديد
سياساته المستقبلية تجاه المنطقة وهل يتعين عليه الاستمرار في دعم
سياسات النظم العربية القمعية تجاه هذه الجماعات والقبول بالاعتذارات
التي يقدمها الحكام العرب في معرض تبريرهم لعدم السماح بقيام ديمقراطية
حقيقية بدلا من تلك الوهمية خوفا من مجيء هذه الجماعات إلى السلطة.
الغرب طرح السؤال وأجاب عليه بنعم (مع ضمانات) وكان آخر ما ورد في
هذا الشأن هو تقرير وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت الصادر
قبل أيام قليلة والذي تجاهلته صحافتنا الرشيدة المشغولة بانتخابات
اتحاد الكرة والدستور في العراق.
أما السؤال الذي يتعين علينا نحن طرحه والإجابة عليه هو (هل آن
الأوان لترفع الدولة يدها الخانقة لحرية تشكيل الأحزاب والجمعيات (وليس
الجماعات) بما فيها الإخوان أم تستمر في نفس السياسات التي ثبت فشلها
بامتياز في تحقيق أي شيء إيجابي سوى ترحيل وتجميع ثروة هائلة من
الأزمات اعتمادا على أننا والحمد لله نملك أعظم مجموعة من ترزية
القوانين في التاريخ المعاصر).
وحينما نتحدث عن الإخوان فإننا نتحدث عن حزب سياسي وليس عن جماعة
دينية تدعي أنها أمة الإسلام.
إنه نفس العرض المقدم لهم منذ نهاية أربعينات القرن الماضي على يد
المرحوم فؤاد سراج الدين والذي رفضوه قائلين (أنتم لستم حزبا سياسيا
ولا جمعية دينية ولكنكم كذا وكذا و كذا....
الإخوان المسلمون وكما قلنا مرارا وتكرارا يتحملون مسئولية كبرى عن
إجهاض التجربة الديمقراطية في مصر ولكن هذا وحده لن يحل لا مشكلة
الإخوان ولا مشكلة الحزب الوطني المتشبث بالسلطة ناهيك عن بقية الأحزاب
الوهمية التي ظهرت أهميتها الكبرى في ذلك المسلسل التليفزيوني الذي
سيجري عرضه في رمضان القادم بعد الإفطار مباشرة تحت عنوان (حوار
الأحزاب).
الشيء المؤكد أن الدعم الدولي لسياسة الإقصاء السياسي المستهدف أو
الممنهج قد أصبح أثرا بعد عين وأصبح من الواضح أن سياسة تأجيل حل
الأزمات وأخطرها بكل تأكيد ذلك القرار الحتمي والمؤجل بفتح الباب من
أجل إعادة تشكيل مجمل الخريطة السياسية في مصر وليس مجرد السماح (للإخوان
الجماعة أو الحزب) بدخول الانتخابات والمشاركة في السلطة هو سؤالنا نحن
الذي يتعين علينا أن نجيب عليه بدلا من إعادة ترديد ما يقوله الغرب
وكأننا مجرد ببغاوات لا نمتلك عقلا ولا نمتلك إرادة التغيير والإصغاء
لصوت العقلاء والاستفادة من تجارب الماضي القريب والبعيد. |