ألقى سماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي
(دام ظله) محاضرة قيمة أمام جمع من علماء كربلاء المقدسة بعنوان (وصايا
الى العلماء) وفي ما يلي نص المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على
محمّد وآله الطاهرين.
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته .
أمّا بعد، فقد قال الله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)(1)
صدق الله العلي العظيم .
إنّ العالِم في أيّة مرحلة من مراحل العلم كان
سواء في مدينة كبيرة أو صغيرة بل حتّى لو كان في قرية، وفي أي سنّ من
سني العمر كان سواء أكان في عنفوان الشباب أم كان كهلاً، وفي أي ظرف
كان في الحرّية أم الاستبداد ، في الملابسات أم في المشكلات وغيرها،
فهو لا يستوي مع غيره وذلك لأمرين :
الأوّل: أنّ
المستفاد من نفس هذه الكلمة في كتب البلاغة ومنها المطوّل(2)
والمختصر(3)
فضلاً عن كتب النحو كالمغني(4)
وغيره أنّ تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلّية، وحسب الإصطلاح
النحوي قوله «هل يستوي» إنكار إبطالي علماً أنّ ابن هشام تبعاً لمن
سبقه وغيره ممّن قد اتّبعوه خصّوا الإنكار الإبطالي بالهمزة.
فمن كلام لابن هشام في أوّل المغني : قد تخرج
الهمزة عن الاستفهام الحقيقي وترد لمعان منها الإنكار الإبطالي.
ولا يخفى أنّ هذا الكلام من ابن هشام وأمثاله من
النحّاة يعدّ كبوة ـ إذ أنّ الجواد قد يكبو ـ وقد كشف القرآن الكريم
الذي هو قمّة في البلاغة هذه الكبوة حيث استعمل غير الهمزة في
الاستفهام فعبّر بـ «هل» التي هي للانكار الابطالي، فقال عزّ من قائل :
(هَلْ يَسْتَوِي) فيكون المعنى هكذا: (لا
يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
وإذا يسأل هنا لماذا؟ يقال في جوابه: لأنّه كان
يعلم وفي ذلك كفاية، فالمريض العالم بمرضه وعلاجه لا يراجع الطبيب
للمعالجة لعمله، وكذا الحال بالنسبة للسائق الذي يعلم الطريق، فهو لا
يوقف سيارته ويسأل الناس من أين الطريق، فهل من الممكن أن يستوي هذا
السائق والذي لا يعلم الطريق؟ وهل يستوي ذلك المريض والذي لا يعلم ما
هو داءه أو دواءه؟
بالطبع لا يستويان.
إنّ العلم بحاجة إلى
أخلاق، بل إنّه كالماء الهنيئ الذي يحتاج أن يجعل في إناء جميل
ونظيف وإلاّ فإنّه إذا وضع في إناء وسخ أو غير مناسب فإنّ عذوبته
تذهب هدراً. |
الثاني: أنّ
العلم بحاجة إلى الأخلاق ليكون نافعاً، ولكي تصبح هذه الطاقة الضخمة
مفيدة، فلابدّ أن يكون مع العلم حلم، علم معه بُشر، علم معه صبر إذ أنّ
الإنسان إذا علم أنّ الصبر أحجى يصبر، وإذا علم أنّ الحلم أفضل يكون
حليماً، وإذا علم أنّ الشجاعة فضيلة يكون شجاعاً، وإذا علم أنّ نشر
العلم زكاته ينشر علمه وهكذا.
وعلى كل فإنّ العلم بحاجة إلى أخلاق، بل إنّه
كالماء الهنيئ الذي يحتاج أن يجعل في إناء جميل ونظيف وإلاّ فإنّه إذا
وضع في إناء وسخ أو غير مناسب فإنّ عذوبته تذهب هدراً. وكذا الحال
بالنسبة للعلم، فهو بحاجة إلى الأخلاق، فإذا شفعت الأخلاق العلم يصبح
الإنسان كالشيخ المفيد الذي يشعّ ذكره بعد ألف سنة، ويصبح كالشيخ
الصدوق الذي خُلِّد ذكراه بعد أكثر من ألف عام، ويكون كالشريف المرتضى
والشريف الرضي، أمّا إذا لم تشفع الأخلاق العلم ولم تنظم إليه فربما
نفس أهل الحي لا يعرفون الإنسان، وقد يعيش في قرية والحال أنّ أهلها لا
يعرفونه.
بالطبع أنّنا عندما نوصي بالأخلاق مرادنا بذلك
المعنى العام وليس فقط البُشر وطلاقة الوجه، إذ أنّ البشر واحد من
أجزاء أو جزئيات الأخلاق.
من جانب آخر فإنّنا إذا بحثنا في التاريخ لنعتبر
منه نجد أنّ العلماء جميعاً لم يخلّد ذكرهم، وإنّما وحدهم الذين كانوا
متخلّقين بأخلاق الرسول وأهل بيته (عليهم السلام)، فعلى سبيل المثال
إذا أُسيئ إليَّ أو إلى أحد الإخوة الكرام الموجودين كيف يكون ردّنا ؟
الجواب: ينبغي أن نأخذ ذلك من سيرة رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، فهذا الإمام
الحسين (عليه السلام) عندما كان في طريقه إلى كربلاء اعترضته عصابة
مؤلّفة من ألف مسلّح بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي وقد كان هدفهم هو
تسليم سيّد الشهداء (عليه السلام) مكتوفاً إلى ابن زياد علماً أنّهم
أعلنوا هذا الهدف أمام الإمام الحسين (عليه السلام) أكثر من مرّة ، بل
إنّ سيّد الشهداء (عليه السلام) ليس فقط كان
يعلم بهدفهم، وإنّما كان يعلم أنّ بعضهم سيشترك في قتله وقتل أبي الفضل
العبّاس وعلي الأكبر والقاسم فضلاً عن صحابته الأخيار، ومع ذلك كلّه
لمّا رآهم عطاشى سقاهم الماء(5).
هذه صورة من أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)
التي إذا وجدت في أي عالم يكون موفّقاً في الدنيا وعظيماً عند الله
سبحانه وتعالى، سواء أكان شاباً أم شيخاً، في مدينة أم في قرية، في
المشكلات الاقتصادية والسياسية أم في الحرّية.
وقد صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) مؤسّس
هذا الأساس حيث قال : «إنّما بعثت لاُتمّم مكارم الاخلاق»(6).
فالرسول (صلى الله عليه وآله) عمل ألف عمل وعمل
ومن بركات أعماله أخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ومع ذلك فهو لا
يقول إنّما بعثت لهذا العمل أو لذاك وغيره ، بل يقول : بعثت لاُتمّم
مكارم الأخلاق.
وعليه فإنّ مكارم الأخلاق هي أهم شيء للعالم
الذي ليس كلّ الناس في مستواه...
والآن اسمحوا لي أن أنقل لكم هذا الموقف
التاريخي العظيم ولكن قبل نقله إليكم أقول:
هناك بعض المواقف الخالدة التي إذا ذابت الدنيا
فإنّها لا تذوب، وإذا كانت الجبال تنسف كما يقول القرآن الكريم وصدق
الله سبحانه حيث قال : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ
يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً)(7)
فإنّ مثل هذه النماذج لا تنسف.
يقول المؤرخّون: أنّ أحد المشركين جاء إلى
المدينة عندما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) رئيس حكومة وزعيم
ثورة ـ في تلك العصور التي كان ظلام الاستبداد قد طبّق على كلّ الكرة
الأرضية ولا أحد يستطيع أن يسأل سؤالاً من حاكم ـ يأتي هذا المشرك الذي
هو في الخندق المقابل لرسول الله (صلى الله عليه وآله)
ويلوي رداءه الخشن بكلّ شدّة على رقبته بحيث إنّ أنفاس رسول
الله (صلى الله عليه وآله) ـ كما في الحديث الشريف ـ كادت أن تنقطع،
وقد بقي أثر ذلك الثوب الخشن في عنق الرسول (صلى الله عليه وآله).
إنّي أُوصيكم يامن عايشتم
المظالم في العراق وقد خرجتم ولله الحمد للتوّ منها خاصّة في
مدينة كربلاء المقدّسة التي ورد في الأحاديث من العامّة والخاصّة
أنّ الله سبحانه وتعالى يبيد الكرة الأرضية يوم القيامة ما عدا
كربلاء فإنّها تكون في الجنّة بل ومن أفضل بقاعها. |
في تلك اللحظات قال الكافر لرسول الله (صلى
الله عليه وآله) : ياأبا القاسم ـ إذ أنّه لم يكن مؤمناً أصلاً حتّى
يقول يارسول الله ـ المال ليس مالك ولا مال أبيك مر لي بشيء من المال.
آنذاك حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أقوى شخصية على وجه الأرض ـ حقيقة وظاهراً إذ أنّ أقوى حكومتان في ذاك
العهد هما الروم والفرس وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقوى
منهما ـ التفت إليه وقال: صحيح أنّ المال ليس بمالي ولا مال أبي ،
ولكن لماذا صنعت هكذا ؟ فهل لي حقّ أن أقتصّ منك ؟
وإذا بالكافر يقول: ليس لك حقّ.
فتساءل الرسول (صلى الله عليه وآله) منه قائلاً
: لماذا ؟
فأجاب الأعرابي المشرك : لأنّك لا تجازي السيّئة
بالسيّئة.
فأنت يارسول الله قد بعثت لتتمّم مكارم الأخلاق
وإذا أسأت ـ أنا الكافر ـ إليك فإنّك لا تواجهني بالسوء.
لذلك فإنّ القرآن الكريم يوصينا بالتعلّم من
رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث قال
تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(8).
من هنا فإنّي أُوصيكم يامن عايشتم المظالم في
العراق وقد خرجتم ولله الحمد للتوّ منها خاصّة في مدينة كربلاء
المقدّسة التي ورد في الأحاديث من العامّة والخاصّة أنّ الله سبحانه
وتعالى يبيد الكرة الأرضية يوم القيامة ما عدا كربلاء فإنّها تكون في
الجنّة بل ومن أفضل بقاعها(9).
لقد تفضّل الله سبحانه عليكم بهذا الجوار الذي
ليس هناك شيء أعظم منه ـ كما في الأخبار الشريفة ـ وسوف يتقاطر عليكم
في المستقبل الذين ملئت قلوبهم حبّاً للامام الحسين (عليه السلام)
وأبيه وأخيه وسائر ذرّيته الأطهار (عليهم السلام) من شتّى أنحاء العالم
بالملايين خاصّة في الزيارات المخصوصة كليالي الجمعة وغيرها وسوف
يكونوا ضيوفاً عندكم وكلّهم عندما يعودون بحاجة إلى كلمتين ترجعان
إليكم وإلى الذين يسكنون هذه المدينة المقدّسة :
الاُولى: ينبغي
أن يكون انطباعهم الشخصي عن أهالي كربلاء جميعاً : العلماء، الخطباء،
الخبّازين، الحدّادين، العطّارين، أصحاب الفنادق وغيرهم من الذين سكنوا
هذه المدينة المقدّسة أنّهم قد تخلّقوا بأخلاق الإمام الحسين (عليه
السلام)بحيث إنّ كل من يزور كربلاء ويبقى فيها ولو لمدّة يوم أو ليلة
يلامس هذه الأخلاق .
بل ينبغي أن تكون أخلاقكم بشكل أنّ كل من يرد
إلى كربلاء يشعر أنّه دخل أرضاً هي ليست فقط أفضل بقاع الأرض وإنّما هي
أفضل بقاع الجنّة علماً أنّ الزائر سيرتّب انطباعاً خاصّاً عن أهل
المدينة وهذا يرجع إليكم أيّها العلماء وإلى كيفية تربيتكم لأهالي
المدينة الذين سيأخذون بقولكم ويتأثّرون بأعمالكم ، وكما في الحديث
الشريف : « كونوا دعاة الناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاة بألسنتكم »(10).
بطبيعة الحال أنّ هذا الحديث ليس موجّه إليكم
فقط ـ أيّها العلماء الأفاضل ـ لكونكم متصدّين لهذا الأمر، بل إنّه
يشمل حتّى ذلك الخبّاز والسائق وأصحاب الفنادق الذين يتأثّرون بتربيتكم
إن شاء الله.
الثانية: ينبغي
أن تكون أفضل هدية يأخذها الزائر الذي يدخل كربلاء التي هي أفضل بقعة
من بقاع الجنّة ليس فقط التربة والسبحة مع علو مكانتهما وقداستهما
الرفيعة ، إذ أنّ قداسة الجنّة بقداسة أهلها، وكذا بالنسبة إلى كربلاء
التي قداستها بقداسة سيّد الشهداء (عليه السلام).
فمن المفترض أنّ الزائر يحمل لأهله وأقرباءه
وأصدقاءه هدية من كربلاء المقدّسة ألا وهي أفكار وأُسلوب سيّد الشهداء
(عليه السلام) التي هي قمّة في العظمة.
وهذا يحتاج إلى من يحمّله الكتب والكراريس
وغيرها من الوسائل التي ينبع عنها واقع الإمام الحسين وهذا أيضاً يرجع
إليكم.
فلو أنّ هذا الجمع المكوّن من أربعين فرداً صار
أربعمائة أو أربعة آلاف وشيئاً فشيئاً صار في المستقبل أربعين ألف نفر
وعمل كل واحد منهم إثنا عشرة ساعة من أجل تغطية هذا الأمر لن يستطيعوا
ذلك إذ أنّه لا يمكن لأعداد قليلة أن يقدّموا الخدمة لمئات الملايين ،
ولكن يبقى القول إنّ الله تعالى يجعل البركة فاسعوا وحاولوا ببركة من
جعلكم الله منعّمين بجواره أن يرجع زوّار كربلاء وهم حاملين لهاتين
الكلمتين.
وإنّي في هذا المقام أشكركم كثيراً على هذا
التشريف وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يكون في عونكم، وأن يكون الإمام
الرضا (عليه السلام) وأُخته العظيمة فاطمة المعصومة سلام الله عليها
شفيعان لنا ولكم جميعاً في قضاء حوائجنا للدنيا والآخرة .
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين .
(2)
كتاب المطوّل للتفتازاني هو من أهمّ كتب البلاغة التي يدرسها
الطلاّب في الحوزات العلمية سابقاً.
(3)
كتاب مختصر المعاني هو اختصار لكتاب المطوّل وقد أُلتزم به في
بعض الحوزات العلميّة إلاّ أنّه مع الأسف هجر ولم يعد أحد من
الطلاّب يدرسه إلاّالقليل جدّاً.
(4)
كتاب المغني لابن هشام هو من الكتب المهمّة التي يدرسها طلاّب
العلوم الدينية في الأدبيات وهو من خيرة الكتب المفيدة.
(5)
راجع تفصيل القضية في بحار الأنوار : ج44 ص375 ـ 376.
(6)
مستدرك الوسائل : ج11 باب استحباب التخلّق بمكارم الاخلاق
ح12701 .
(8)
سورة الأحزاب : الآية 21.
(9)
ففي الحديث عن الـإمام السجّاد (عليه السلام) قال : « اتّخذ الله
أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة
ويتّخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام وإنّه إذا زلزل الله تبارك
وتعالى وسيّرها رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية فجعلت في أفضل
روضة من رياض الجنّة وأفضل مسكن في الجنّة لا يسكنها إلاّ النبيّون
والمرسلون أو قال : أُولوا العزم من الرسل فإنّها لتزهر بين رياض
الجنّة كما يزهر الكوكب الدرّي بين الكواكب لأهل الأرض يغشى نورها
أبصار أهل الجنّة جميعاً وهي تنادي أنا أرض الله المقدّسة الطيّبة
المباركة التي تضمّنت سيّد الشهداء وسيّد شباب أهل الجنّة » بحار
الأنوار : ج98 باب الحائر وفضله ح10.
(10)
بحار الأنوار : ج5 ص198 باب الهداية والاضلال والتوفيق ح19.
|