في محاضرته الاسبوعية آية الله السيد رضا الشيرازي يتحدث حول داء التبعية والتبعية الثقافية وسبل مكافحتها

ألقى سماحة آية الله السيد رضا الشيرازي محاضرة قيمة حول التبعية الثقافية التي يعمل المستعمرون على غرسها في صفوف المسلمين وذلك ضمن  المحاضرة الأسبوعية العامة في بيت الامام الشيرازي الراحل بتاريخ 16 جمادى الأخرى عام 1424ه‍ . وجاء في المحاضرة

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم  على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

قبل الحديث عن التبعية الثقافية، لابدّ أوّلاً من الحديث عن داء التبعية بشكل عام. كما لا يكفي الحديث عن التبعية والتبعية الثقافية دون معرفة سبل مكافحتها؛ ومن ثم فإنّ موضوعنا سيدور في ثلاثة محاور هي:

· التبعية ما هي؟

· التبعية الثقافية وأخطارها.

· كيف نواجه التبعية الثقافية؟

 1. مشكلة التبعية وحدودها

إحدى المخاطر الكبيرة التي تواجه المجتمعات والأمم هي مشكلة تبعية الأمم الضعيفة للأمم القوية. وهذه المشكلة تتفاقم خطورتها إذا لم تتوقّف عند حدّ. فهي قد تستمر في كثير من الأحيان حتى مرحلة الذوبان الكلي للأمّة  الضعيفة في الأمّة القوية، وتُمحى هوية الأمّة الضعيفة وكيانها بالكامل.

قد تبدأ تبعية أمّة ما في المجال الاقتصادي، ولكن هل تتوقّف عند ذلك الحد؟ يخبر الله عباده المسلمين في معرض تحذيره من التبعية لليهود والنصارى أنّها لن تتوقّف عند ذلك الحد، ويقول تعالى: ﴿ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملّتهم﴾[1]. أي إنّ هؤلاء لا يقنعون منكم بأن تكونوا تابعين لهم من الناحية الاقتصادية، ولا أن تدوروا في فلكهم من الناحية السياسية، ولا مقلّدين لهم في النواحي والظواهر الاجتماعية فقط، بل لا يكتفون منكم إلاّ بالذوبان الكامل والتحوّل التام إلى دينهم وملّتهم وعدم الإبقاء على كل ما يشير إلى شخصيتكم الدينية وكيانكم الاعتقادي.

تبعية الثقافية، وهي أخطر أنواع التبعية، لأنّها تنبع من الداخل. فإنّ التبعية المفروضة من الخارج كالتبعية السياسية أمدها قصير في العادة، في حين أنّ التبعية إذا نبعت من الداخل وتحوّل الفرد إلى مستعبَد بمحض إرادته، فهذه العبودية والتبعية ليس لها علاج.

ولم يقل الله تعالى: «ولا ترضى» بل قال: ﴿ولن ترضى﴾ و"لن" كما هو المعروف في اللغة العربية تفيد تأييد النفي، فكأن الآية تقول: إنّ هذا حالهم أبداً، فلا تحتملوا تغيّرهم في المستقبل وأنهم قد يكتفون بالقليل!

وهذا معناه أنّ اليهودي لا يكفيه أن تكون صديقاً له بل لا يقبل منك إلاّ أن تتحوّل عن دينك وتكون يهودياً وهكذا المسيحي. أما العلاقات الظاهرية والمجاملات وما أشبه فهذه لا يكتفون بها.

ويقول تعالى في آية أخرى: ﴿حتّى يردّوكم عن دينِكم إن استطاعوا﴾[2]، فالهدف النهائي لهم هو أن نتخلى عن ديننا فنتّبعهم في كلّ شيء! وهذه أخطر أنواع التبعية وأقصاها.

قضية التنباك والعهد البهلوي في إيران مثالاً

من الأحداث التاريخية المهمة في إيران القضية المعروفة بقضية التنباك أو التبغ، حيث كان الهدف الظاهري للمستعمر الهيمنة على اقتصاد إيران من خلال شركة التبغ، ولكن الواقع الذي كانوا يخططون له كان أبعد من ذلك، وكان موضوع احتكار التبغ الإيراني مجرد طريق وبداية. ولو أرادوا احتكار التبغ فقط لكفاهم ألف عميل على مستوى إيران مثلاً، ولكنهم جاءوا بأربعمئة ألف فرد إلى إيران - كما قرأنا في بعض الكتب - وهذا جيش احتلال كامل! والأهداف الحقيقية مضمرة، والدليل على ذلك أنّهم عندما تمكّنوا فيما بعد، حطّموا إيران في كل الجوانب، ولم يرتضوا حتى بحجاب النساء، ومنعوهن من ارتداء زيهن المسمى بالشادور، وحظروا إقامة المآتم الحسينية. فلقد مُنع في عهد البهلوي الأوّل [وكان عميلاً من عملائهم، جاءوا به وأزاحوه بعد ذلك] كلّ مظهر من مظاهر الدين الإسلامي والمذهب الشيعي الحق،. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿حتى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا﴾، فالأمر رهين باستطاعتهم.

نقل بعض الشيوخ أنّهم كانوا يخافون حتى من إعلان البكاء في أيام عاشوراء فكانوا يذهبون إلى المقابر وهناك يجتمعون للبكاء على الحسين (عليه السلام) متظاهرين أنهم إنما يبكون موتاهم، فلا يلحقهم الضرر!

ونقل لي أحد الشيوخ من سكنة المحلة التي نقيم فيها حالياً أنّ والدته لم تغادر بيتها لعدة أعوام خشية أن يتعرض لها الشرطة الذين يتربصون بالمحجبات لخلع حجابهن.

ولم تكن في البيوت حمامات في السابق، وكان الناس يذهبون إلى الحمامات العامة عادة، فكانت النسوة المحجبات يسخّنّ الماء ويغتسلن في إحدى الغرف ولا يخرجن للذهاب إلى الحمام العمومي خشية تعرّض الشرطة لهن ونزع حجابهن بالقوة!

قال أحد الشيوخ أيضاً: كنّا جماعة مجتمعين في غرفة في ظل احتياط أمني شديد نبكي على مصاب الحسين في ذكرى عاشوراء أو الأربعين، فأُخبرنا أنّ شرطياً داهم المن‍زل. فلم ندرِ ما نفعل؟ وبماذا نبرّر له وجودنا وجلوسنا هنا. فألهمنا الله فوراً أن نمدد أحدنا وسط الغرفة وألقينا عليه غطاءً أبيض، وعندما سألَنا الشرطي عن سر اجتماعنا وبكائنا، أشرنا إلى الشخص  المسجى وسط الغرفة وقلنا إنّنا من أقارب هذا . فاقتنع وعاد.

فانظر إلى أيّ مدى بلغ فرض التبعية على الناس بحيث منعوهم حتى من البكاء على إمامهم (عليه السلام) في يوم مصابه. وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتّبع ملّتهم﴾, وقوله تعالى: ﴿حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا﴾.

لماذا لم يفعلوا هذه الفظائع في عهد ثورة التنباك؟ لأنّهم لم يستطيعوا، وعندما استطاعوا ذلك في عهد البهلوي الأوّل، لم يترددوا أبداً. وهذه الحقيقة كشف عنها القرآن الكريم، فهي من السنن والحقائق الاجتماعية والتاريخية. يؤيد ذلك استخدام «لن» التي تفيد النفي المؤبّد.

إذن، التبعية تبدأ من نقطة، قد تكون اقتصادية أو سياسية ولكنّها لا تتوقّف حتى الذوبان الكلي كما حصل في أسبانيا التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية عدة قرون، ولكن الأعداء دمّروا فيها الإسلام تدميراً كاملاً حتى لم يعد لتلك الحضارة من أثر, وهذا هو هدفهم. ومَن يتصوّر أنّ الأمر يتوقّف عند التبعية الاقتصادية، أو التبعية السياسية فهو واهم.

2. التبعية الثقافية

التبعية أنواع، فهناك  التبعية الاقتصادية، والتبعية السياسية، والاجتماعية، وهناك التبعية الثقافية، وهي أخطر أنواع التبعية، لأنّها تنبع من الداخل. فإنّ التبعية المفروضة من الخارج كالتبعية السياسية أمدها قصير في العادة، في حين أنّ التبعية إذا نبعت من الداخل وتحوّل الفرد إلى مستعبَد بمحض إرادته، فهذه العبودية والتبعية ليس لها علاج. فقد روي أنّ مجموعة من العبيد حرّرهم أحد الحكام المسلمين، فخرجوا في تظاهرات رافضين التحرير ومطالبين بإبقائهم عبيداً! فلم يتظاهر الأسياد رفضاً للقرار، بل إن العبيد هم الذين رفضوا قرار التحرير لأنّهم أُشربوا العبودية والتبعية للأسياد، وإذا كان الشيء نابعاً من الداخل صعُب علاجه. إذا أصبح الشخص مستعبداً من الداخل لا يرفض  العبودية بل يرتضيها ويفضّلها.

وهذه الحالة خطرة جداً، وهي التبعية التي يعمل المستعمرون على غرسها في صفوف المسلمين. أذكر شاهدين على ذلك:

الشاهد الأوّل من العراق: لقد واجه البريطانيون مقاومة عنيفة في العراق.. واجهوا قوة الدين. وكان ثقيلاً عليهم - وهم يعدّون أنفسهم أعظم إمبراطورية - أن يُهزموا في العراق أمام مجموعة من الحفاة. وهناك تحليل لطيف يقول: إنّ الدول العظمى يهمّها اعتبارها وسمعتها أكثر من أيّ شيء آخر، وكثير من المواقف يتّخذونها من أجل هذه القضية، وهذا ما خسرته بريطانيا المسمّاة بالعظمى في العراق!

تقول الجاسوسة البريطانية المعروفة في العراق في مذكراتها «مذكرات مس بيل»: «ففكرنا بطريقة لمواجهة الحالة، وانتهينا إلى ضرورة فصل المجتمع عن علماء الدين ومراجع التقليد». ولكن كيف؟ تقول: «عن طريق إنشاء المدارس الحديثة»!

إنّ تقديم البدائل يتطلّب منّا تخصّصاً ومعرفة بالمباني والمناهج ويحتاج إلى اطّلاع بالصغريات الخارجية لأنّ بيان الحكم كما يحتاج إلى معرفة الكبرى يحتاج إلى معرفة الصغريات الخارجية أيضاً.

فكانوا يوفدون أولاد رؤساء العشائر والشخصيات المهمة إلى اسطنبول بذريعة الإعداد العسكري وتلقي التدريبات، وهناك كانوا يقومون بشحن عقولهم بما يشاءون. فالتربية الفكرية كانت عندهم أهمّ من التربية العسكرية التي لم تكن أكثر من ذريعة ووسيلة تضليل.

وهكذا كانوا يقومون بإعداد أفراد من داخل المجتمع العراقي لا يفكّرون إلاّ بالطريقة الغربية وبما يخدم مصالح الحكومات الأجنبية.

إذا راجعتم تاريخ العراق في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين لرأيتم أنّ النوّاب والوزراء المهمّين وقادة الجيش وأغلب الشخصيات السياسية البارزة كانوا خرّيجي هذه المدرسة. فتصوّر كيف سيكون وضع البلد الذي يحكمه أفراد من أبنائه تحكمهم عقلية الحكومات الغربية!

الشاهد الثاني من التجربة الإيرانية: كتب أحد السفراء الغربيين تقريراً حول الأوضاع في إيران يقول فيه: إنّ  مشكلتنا في إيران تتلخّص في الملالي والبازار (أي رجال الدين والسوق). فأيّ قانون نصدّره إذا رآه الملاّ مخالفاً للدين حرّك السوق، والسوق يضغط بدوره على الحكومة، وبالتالي لا نتمكن من تطبيق ذلك القانون.

يقول: والحل في ذلك أن نضعف التجار[3] ونفوذ رجال الدين عن طريق إنشاء المدارس الحديثة.

من مظاهر التبعية الثقافية في بلاد المسلمين: حدّث  السيد الوالد (رحمه الله) أنّه كان هناك وزير معارف في العراق يقال له خليل كنة، كان وزيراً للمعارف في خمس دورات متعاقبة، فكان رجلاً معروفاً. ذهبنا إليه، فرحّب بنا، فبدأنا الكلام بذكر حديث شريف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: «صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي وإذا فسدا فسدت أمّتي: الأمراء والعلماء»[4] وقلنا له: أنت من الأمراء. فقال: الأمراء - وأنا منهم - أكثرهم غير صالحين، ثم سألنا عما أتى بنا وقال: سلوا ماذا تريدون؟ قلنا: نريد أن نتحدّث معك حول مناهج التعليم. قال: تفضلوا. قلنا: المناهج الموجودة لا تدرّس مادة الدين ولا ينحصر الدين في العبادات كالصلاة والصيام. قال: ماذا تريدون مثلاً؟ قلنا: إن الجانب السياسي في الإسلام مهمل تماماً في المناهج الدراسية، وهكذا الجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي والعقائدي مثل نظرة الدين إلى الكون والحياة فهذه الأمور كلها مهملة.

يقول الوالد: وهنا ضحك الوزير وقال: إنّني مع كوني وزير المعارف، لا أعرف عن هذه الجوانب شيئاً!

وهذه هي المشكلة. فإذا كان وزير المعارف لا يعرف شيئاً مما ينبغي تدريسه في المدارس، فمن الطبيعي أن يدرّس الاقتصاد الغربي والسياسة الغربية وعلم الاجتماع الغربي وعلم النفس الغربي، في صورة أفكار جاهزة معلّبة يتلقاها الطالب، وعندما يكبر يقال له رجل مسلم ولكن عقليته غربية وتفكيره ومنطلقاته في الحياة غربية، ولذلك يقود البلاد نحو الغرب.

 3. وسائل مكافحة التبعية الثقافية

أ - إنشاء المعاهد التعليمية ابتداءً من الابتدائية وانتهاءً بالجامعة.

وهذا الأمر ممكن، فلرجال الدين كلمتهم، وللتجار الإمكانات المادية، فهو ممكن وعملي ونافع حتى لو فكّر التجار فيه من ناحية الربح والخسارة. والذين ذهبوا إلى الغرب واجهوا هذه المشكلة فأنشأوا معاهد خاصة بهم، لكنّا نحن الشيعة - مع الأسف – قليلو الانتباه لهذه النقطة المهمة. ألا نحتاج  إلى مزيد من المعاهد الإسلامية في بلاد الغرب؟ بل في بلادنا؟ ألا يحتاج العراق اليوم إلى معاهد تعليمية موجَّهة؟ ألا نتمكن من القيام بدور ولو محدود في هذا المجال؟

ألا نستطيع حتى إنشاء دورات في العطلة الصيفية؟ وكم له من  تأثير؟

· لقد بدأ الوالد (رحمه الله) أوّل نزوله في الكويت بإنشاء دورات في العطل،  وأكثر الإخوة المتديّنين الذين نعرفهم اليوم هم خرّيجو تلك الدورات.

· نقل لي أحد الإخوة هذه القضية - وهي في الواقع مؤلمة مؤسفة جداً  أنقلها لكم لتعرفوا حجم الخطر- قال: إحدى العوائل المتديّنة العريقة التي هاجرت إلى الغرب أرسلت ابنتها إلى الجامعة لتكمل دراستها. وماذا يمكن للمرء أن يفعل هناك؟ إما أن يرسل ولده إلى المعاهد الغربية الكافرة، أو المعاهد الوهابية المنحرفة، أو يتركه في البيت ويعنى هو بتعليمه.

يقول ناقل القصة: وفي يوم من الأيام طُرق الباب، فخرج الأب يستطلع مَن الطارق وإذا بشخص زنجي ضخم واقف عن الباب. سأله الرجل: ماذا تريد؟ أجابه أنا صديق ابنتك، أريد لقاءها! فارت في عروق الرجل دماء الحمية والغيرة، وصفع الرجل الزنجي[5].

وبعد دقائق طُرق الباب ثانية وإذا بالرجل الأسود ومعه شرطي، قال الشرطي لصاحب الدار: إن عقوبتك السجن لصفعك هذا الرجل، ولكنه عفا عنك، وأمامك الآن أحد طريقين، فإما أن تعطي لبنتك حريتها وتدعها ترافق هذا الرجل، وإما أن تسمح له يدخل بيتك لملاقاة بنتك. ولا حقّ لك في الوقوف بوجهها.

فكّر الرجل قليلاً ورأى أنّ السماح له بالدخول أهون. وعندما دخل الرجل الزنجي جاء الأب وجلس بين يديه وتوسّل إليه أن يشهد الشهادتين، وتلفّظ بهما الزنجي على مضض، فعقد له الرجل على ابنته عقداً ظاهرياً لتحلّ له.

وهذا نموذج لما يحدث للعوائل المتديّنة في الغرب. ولا داعي لأن نذهب إلى بلاد الغرب، فإنّهم بدأوا يصدّرون هذه الظواهر إلينا. فمن الظواهر المعقّدة والعصية على الحل في هذا البلد مثلاً (يعني إيران) ظاهرة هروب الصبايا من منازل آبائهن!

نعود إلى موضوع إنشاء المعاهد وأذكّركم بتجربة مدارس حفاظ وحافظات  القرآن الكريم في كربلاء المقدسة، حيث كان يدرس فيها زهاء ثلاثة آلاف طالب وطالبة تربّوا فيها على العلوم الدينية، وكذلك على العلوم الدنيوية إذا صحّ التعبير. فكانوا يتلقّون علوم القرآن والتفسير والتاريخ الصحيح إلى جانب علوم الكيمياء والفيزياء واللغة. ولقد ظهرت نتائج تلك التجربة، فهؤلاء الذين انتشروا في شرق الدنيا وغربها حاملين لواء الإمام الحسين (عليه السلام) ومشعله في ظلام الكفر إنما هم نتاج تلك الأجواء.

اجعلوا بيوتكم قبلة: نقل لي أحد الأخوة المؤمنين من الذين يعيشون في بلاد الغرب جانباً من معاناتهم وحلولهم فقال: لقد رأينا أنّ أولادنا وبناتنا على خطر عظيم، فأينما يذهبون يواجههم خطر الانحراف.. لأنّ ثقافة العري منتشرة في كل مكان أينما انتقلوا واجهوها.. سواء على البحر أو في المسابح أو أجهزة المذياع والتلفاز والكمبيوتر والفضائيات والصحف. فالفرد ينظر إلى الانحراف ويسمع الانحراف ويسير على الانحراف، كقول صاحب اللمعة في كتاب الحجّ "ينظر في سواد ويسير في سواد" أو كما يقول الله تعالى: ﴿وأحاطت به خطيئته﴾[6].

يقول فكّرنا أن نعيش في مجمّعات ونوفّر لأولادنا وبناتنا وسائل الترفيه والراحة فيها، بدلاً من أن نتبعثر ونذوب في المجتمع الغربي.

يرى البعض أنّ هذا هو المقصود من قوله تعالى: ﴿واجعلوا بيوتكم قبلة﴾[7]، أي لا تتوزّعوا وتتبعثروا وتتشتّتوا في المجتمع المنحرف فتذوبون فيه، بل لتكن مؤسساتكم بعضها جنب بعض، فهنا مسجدكم وبقربه النادي الرياضي وعلى مقربة منه أيضاً المدرسة، أي بعضها قبلة بعض ومقابلها.

يقول الشخص: لما رأينا أنّه لا يمكننا منع أولادنا من الذهاب إلى المسبح، فكرنا أن ننشئ لهم مسابح خاصة غير مختلطة. وبالفعل أنشأنا مسبحاً كلّفنا ثلاثة ملايين ونصف مليون بوند. وكان من العوامل المؤثرة في الاحتفاظ بهم.

إذن المطلب الأوّل الذي نحتاج إليه في مواجهة التبعية الثقافية والذوبان الثقافي هو بناء المعاهد العلمية الموجّهة قدر الإمكان. فلنبدأ بذلك، ولو على حدّ الدورات الصيفية، فإنّها مؤثّرة جداً.

ب – تقديم البدائل الفكرية:

لا يكفي للمهتم بشؤون المجتمع أن يقول إنّ أمراً ما هو خاطئ بل عليه تقديم البديل الصحيح أيضاً. ونحن علماء الدين عندما نقول مثلاً إنّ السياسة الموجودة غير صحيحة، فالمطلوب منّا تعريف السياسة الصحيحة، وهكذا في فروع الحياة الأخرى كالاقتصاد والتربية وكثير من العلوم الإنسانية التي تدرّس في الجامعات الحديثة. وهذا الأمر بحاجة إلى تخصّص واجتهاد وتفرّغ واهتمام.

لقد ربّى الإمام الصادق (عليه السلام) مجموعة من التلاميذ، وكان كلّ منهم متخصّصاً في مجال، فإذا كان السائل يبحث عن مسألة في علم الكلام قيل له: عليك بهشام بن الحكم، وإن كان يريد الفقه أُرشد إلى زرارة، وهكذا.

إنّ تقديم البدائل يتطلّب منّا تخصّصاً ومعرفة بالمباني والمناهج ويحتاج إلى اطّلاع بالصغريات الخارجية لأنّ بيان الحكم كما يحتاج إلى معرفة الكبرى يحتاج إلى معرفة الصغريات الخارجية أيضاً. كما لابد أن يتفرّغ كلٌّ منّا لأحد الفروع والمجالات، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع. فعلم الاجتماع مثلاً مليء بالنظريات الإلحادية، الأمر الذي يتطلّب منا أن نعرض إزاءها نظريات إسلامية.

ج - الاهتمام بالأدب والفن

كان البعض يُشكل على تسمية نهج البلاغة من قِبل الشريف الرضي ويقول كان ينبغي له أن يسمّيه نهج الحياة فهو نهج الحياة حقّاً وليس نهج البلاغة فقط. ولكن هذا الإشكال برأيي غير وارد، وذلك لما للأدب من دور ريادي في الحياة؛ ولقد اختار الشريف الرضي النصوص التي تشكّل القمّة في البلاغة من كلام الإمام، وإلاّ فإنّ كل كلمات الأئمة هي نهج الحياة، ولكن ليس بالضرورة أن تكون كلّها قمماً في البلاغة، فإنّ الأئمة كانوا يكلّمون الناس على قدر عقولهم، فكانوا يضطرّون أحياناً للتكلّم بلغتهم. أما ما جمعه الشريف الرضي في هذا الكتاب فهو من الروائع والقمم من الناحية البلاغية والتعبيرية من كلمات الإمام علي عليه السلام. ولذلك لو قلنا إنّه توجد اليوم عشرة كتب أدبية متميّزة في العالَم الإسلامي من حيث الانتشار والإقبال والحفظ والتأثير، فإنّ كتاب نهج البلاغة يأتي في الصدارة منها لا شكّ.

فالأدب مهم والفن مهم. ولقد غفلنا نحن المتديّنين كثيراً عن هذا الجانب، في حين إنّ له تأثيراً كبيراً في صوغ عقليات الناس بصورة مباشرة وغير مباشرة. هل تعلمون -على سبيل المثال- مدى تأثير أفلام الكارتون في عقول الأطفال؟ وهل تعلمون أنّ كثيراً من هذه الأفلام تحمل إلى أطفالنا  قيم الحضارة الغربية؟ إنّ القضية مهمة جداً، وإنّ لكل حضارة قيماً، وإنّ الأفلام المنتجة في الغرب تعبّر عن تلك القيم، وهي تنتقل إلى أولادنا الصغار حتى ذوي الخمسة أعوام أو أقل، وينشأ أولادنا على تلك القيم من حيث لا نعلم.

صدر قبل فترة كتاب في الغرب ألّفته امرأة غربية، قالوا إنّه بيع منه في اليومين الأوّلين من نشره فقط ثمانية ملايين وستمئة ألف نسخة، أي بما معدّله أربعة ملايين وثلاثمئة ألف نسخة في اليوم، ونُشر بعد ذلك تقرير يقول: إنّ المكتبات  تعمل ليل نهار بسبب وجود طوابير من الناس منتظرة لاقتناء نسخة من الكتاب!

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أهمية الفن والأدب، فأين نحن من ذلك؟

يقول أحد الإخوة المؤمنين إنّه حصل على فلم سينمائي عن الصدّيقة الزهراء أنتجه حديثاً أحد المتدينين الشباب.

يقول: فرأيت لو قدّمته لابني البالغ من العمر خمسة أعوام. وفي أحد الأيام دخلت غرفته فرأيته يشاهد الفلم ودموعه تنهمر كالمطر.

وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على تأثير الفن في النفوس، فهذا الطفل الذي لا يزيد على الخمسة أعوام تأثّر بالفلم علىحدود فهمه وغرق في البكاء!

تصوّروا إذاً ما عمله الغربيون بالعالَم عن طريق الأفلام والقصص والروايات و...!

خاتمة: بالهمة والتوكل على الله يصبح العطاء ثراً

لا يقولنّ أحد إنا لا نتمكّن، فنحن أيضاً قادرون على التقدّم في هذه المجالات إذا شمّرنا عن سواعد الجدّ وتوكّلنا على الله وتفرّغ بعضنا للتخصّص فيها.

أنقل فيما يلي هذا المطلب عن السيد العم حفظه الله وبه أختم الموضوع: إنّ أمّهات الكتب الفقهية الشيعية المؤلّفة من عهد الشيخ المفيد إلى يومنا هذا، حتى الرسائل العملية، إنما تبتني على مجموعة من روايات أهل البيت عليهم السلام، فإنّ عمدة الدليل في الفقه هو الدليل الثاني أي الأخبار والروايات. صحيح أنّ القرآن يقع في الرتبة الأولى ولكنّه أكثر إجمالاً من الحديث في كثير من الموارد، أما الروايات فهي تمتاز بالكثرة والتنوّع وبيان التفاصيل.

هذه الروايات تبتني على مجموعة من الثقات الذين نقلوها لنا، أمثال حمران بن أعين وزرارة وأكثر من عشرة من إخوانه وأخت واحدة لهم.

يقول السيد العم حفظه الله: أنا أخمّن أنّ خمس فقهنا تقريباً يبتني على هؤلاء!

أقول: هل تعلمون مَن الذي أتى بهذه المجموعة إلى حظيرة الإيمان؟ إنّه رجل أفغاني يقال له أبو خالد الكابولي. فهو رأس الخيط في جلبهم إلى نور الإيمان، ولم يكونوا مؤمنين من قبل.

انظروا كيف استطاع شاب واحد أفغاني أن يترك أثراً عظيماً وامتداداً تاريخياً يعود لأكثر من ألف وأربعمئة عام وقد يستمر حتى يوم القيامة.

إذن لا يقل أحد منّا أنا لا أقدر، فقد يحتجّ الله تعالى علينا يوم القيامة بأبي خالد الكابولي، ولعلّ بينكم مَن هو أكثر قدرة منه!

إذن المطلوب منا أن نبدأ بملء هذه الفراغات بالتوكل على الله والاستمداد منه والاستعانة بأوليائه الطاهرين، نسأله سبحانه أن يوفّقنا لذلك.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 


[1] سورة البقرة: 120.

[2] سورة البقرة: 218.

[3] من الخطط الاستعمارية الخبيثة إضعاف التجّار المسلمين ولهذا نرى أنّ عصب التجارة العالمية بيد اليهود، فللتاجر دور مهم جداً.

[4] إرشاد القلوب، ج1، ص70.

[5] وهذا الخطر بات يهددنا في بلادنا أيضاً. فقد يكون هذا حال جامعاتنا في العراق بعد مدة ليست بالقصيرة إن غفلنا.

[6] سورة البقرة: 81.

[7] سورة يونس: 87.

شبكة النبأ المعلوماتية - الأربعاء 23/7/2003 - 23/ جمادى الأولى/1424