أ – مقدمة
الحمد لله المنعم المتفضل والصلاة والسلام على
رسوله الأمين المتوكل، وعلى آله رموز الطهر المتأصل. ورضي الله عن
الأصحاب ذوي الوفاء المختارين. من لدن الجليل المتجلل، وبعد:
فهذه أسطر نورانية الموضوع، تحكي بعضاً من
ضياءات مصباح نبوي وتقص طرفاً متوهجاً من شمس محمدية، قبستها على
استحياء من مشكاة فيها ذياك المصباح، زيته صدق وفضل وصبر. فيا بلاغة
أسعفيني ويا فصاحة أعينيني لأني سأنقل عن سادس الأئمة جعفر بن محمد (عليه
السلام)، والنقل لن يطال إلا غرفة من بحر ماله في عظم الشأن قرين،
وعنوان ذي الغرفة:
الإمام الصادق أسوة في الفقه والعلم
فاللهم شفع فينا الصادق ووالد الصادق وجد الصادق،
وجد جد الصادق يوم الدين، يوم لا تنفع شفاعة سواهم كشفاعتهم.
يا رب عبد قد أسا بفعاله وبذله قد مدَّ كفَّ
سؤاله
وأتى حبيبك طامعاً بنواله عبدٌ توسل بالنبي واله
فبحقهم يا رب لا تخزيه
وصدق ابن المبارك إذ قال فيه:
أنت يا جعفر فوق المدح والمدحُ عناء
إنما الأشراف أرض ولهم أنت سماء
جار حدَّ المدح من قد ولدته الأنبياء
ب – سنده العلمي:
كان جعفر الصادق عليه السلام يقول:
(حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي
حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين،
وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الله تعالى).
ذرية بعضها من بعض، وكل واحد منهم حلقة في سلسلة
النور التي تبتدأ بالوحي وتنتهي بالوحي، فعن الحق يأخذون ولله الحق
وحده يقدمون، محفوظون إذ يتكلمون، ومصونون عن الدخن حين يعملون. أذهب
الله الرجس. عن أصولهم وطهرهم تطهيراً، وسرى الحكم على الفروع فكانوا
به مشمولين، وقد روي عن الإمام الصادق في هذا الشأن قوله:
(إنا أهل البيت صادقون، لا نعدم من يكذب علينا
عند الناس، يريد أن يسقط صدقنا بكذبه علينا) وصدق الله العظيم إذ قال:
(الله أعلم حيث يجعل رسالته)
والقائل أيضاً:
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيراً)
ج – فقه جعفر وفهمه يخرج من مشكاة النبوة ويصدر
عن معينها:
وهذا مثلان:
1- لما قبض ولده الصغير قال:
(سبحانك ربي لئن أخذت لقد ابقيت، ولئن ابتليت
فقد عافيت، سبحان من يقبض أولادنا ولا نزداد له إلا حباً، إنا قوم نسأل
الله ما نحب فيعطينا، فإذا نزل ما نكره في من نحب رضينا).
وهل هذا إلا انعكاس كامل عن النبوة في فعلة
مثيلة، يوم فقد المصطفى (ص) ولده إبراهيم (ع) فقال:
(أن العين لتدمع وأن القلب ليخشع وإنا على فراقك
يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه
راجعون).
2- وعن أبي عمرو الشيباني قال: رأيت أبا عبد
الله الإمام الصادق وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له،
والعرق يتصبب عن ظهره فقلت: جعلت فداك، أعطني أكفك! فقال لي:
(إني احب أن يتأذى الرجال بحر الشمس في طلب
المعيشة)!
ومن منا لا يستذكر أصلاً لهذا في سيرة النبي
محمد (ص)، وقد تشابه الأمران حتى المماثلة، فالرسول (ص) في هذا المجال
كان يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت).
ويقول: (من خرج يسعى على عياله فهو في سبيل الله).
ويقول: (من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً
له).
د – فقه العلاقة بين العالم والسلطان عند الإمام
جعفر عليه السلام:
وها أنا ذا استعرض ما جرى بين الإمام وبين
المنصور مرة ليستبين الفقه، فقد كتب المنصور الخليفة العباسي إلى
الإمام الصادق: لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟
فأجابه الإمام: (ليس لنا ما نخافك من أجله ولا
عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك، ولا نراها
نقمة فنعزيك)
فكتب إليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا.
فأجابه الإمام: (من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن
أراد الآخرة لا يصحبك)
وقال رضي الله عليه في هذا المجال:
(من عذر ظالماً بظلمه سلط الله عليه من يظلمه
فإن دعا لم يستجب له، ولم يأجره على ظلامته)!
هـ - مهمات المسؤول تجاه رعاياه في نظر الصادق
عليه السلام
لا أبغي هنا التطويل، وإنما الإشارة هي المراد
في هذه العجالة، ولعل أبلغ وصية تحمل مهام المسؤول وواجباته وتوضحها،
هي ما قاله الإمام رضي الله عنه لعبد الله النجاشي: المعروف بأبي بجير
الأسدي، وقد أضحى والياً على الأهواز وبلاد فارس في عهد المنصور:
(وأعلم أن خلاصك ونجاتك في حقن الدماء، وكف
الأذى عن أولياء الله، والرفق بالرعية، والتأني وحسن المعاشرة، وإياك
والسعاة وأهل النمائم فلا يلتزمن منهم بك أحد).
و – الفقهاء الأئمة عالة في فقههم على الإمام
الصادق:
أجمع الدارسون لفقه الأئمة ولحياتهم العلمية على
أنهم جميعاً أفادوا من الإمام الصادق بشكل مباشر أو بآخر غير مباشر،
فها هو الإمام مالك بن أنس رحمه الله يقول: ما رأت عين ولا سمعت أذن
ولا حضر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وأدباً وعبادة
وورعاً!
وأنقطع الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى مجالس
الصادق طوال عامين قضاهما في المدينة المنورة وعنهما يقول: لولا
العامان لهلك النعمان!
وكان لا يخاطبه إلا بقوله: جعلت فداك يا ابن بنت
رسول الله.
وسئل ابن أبي ليلى: أكنت تاركاً قولاً أو قضاء
لرأي أحد؟ فأجاب: لا. إلا لرجل واحد، هو جعفر الصادق.
ز – تقوى تملؤ الصدر وعلم جم أصيل:
يصف الإمام مالك رحمه الله سيدنا جعفراً فيقول:
لقد اختلفت إلى جعفر زماناً فما كنت أراه إلا على إحدى ثلاث خصال: إما
مصلياً وإما قائماً وأما يقرأ القرآن. وما رأيته يحدث عن رسول الله (ص)
إلا على الطهارة، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان ممن يخشى الله.
وللإمام عليه السلام وصية لطلاب العلم تستحق
التسجيل بماء الذهب، فقد قال (اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع، وقوّوه
بالتقية وبالاستغناء بالله عز وجل).
ووعظ أحد أتباعه بعد أن علم أنه يقترف الإثم،
بقوله:
(إن الحسن من كل أحد حسن، وأنه منك أحسن لمكانك
منا، وأن القبيح من كل أحد قبيح وإنه منك أقبح).
ورآه سفيان الثوري وعليه جبة خز دكناء فقال: يا
ابن رسول الله ما هذا لباسك، فقال: (ياثوري لبسنا هذه لله) ثم كشف عن
جبة صوف خشنة يلبسها، وقال: (لبسنا هذه لكم).
وفي النهاية:
لقد بلغ الصادق (ع) رسالته وأدى أمانة الإمامة،
ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فلم يقصر وحاشاه، ولم يضعف فالله
متوليه ولم يتوان لأنه ألتجا إلى الله مستعيناً من العجز والكسل على
غرار جده المصطفى (ص) ولذا قال لما دنا أجله:
(الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بلغت
وبينت للناس جميع ما يحتاجون إليه). رضي الله عن الصادق سليل الطهر
وسيد الفقه وملاذ العلم ومحط أنظار الدعاة إن الله على بصيرة فاللهم
شفعه فينا. وهيئ لنا من مثله ومنه مدداً واصلاً إلى لحظة الشفاعة
العظمى من جده المصطفى (ص) يوم الحشر والنشر والحمد لله رب العالمين.
المصادر
1- الإمام الصادق: الشيخ العلامة محمد أبو زهرة،
دار الفكر، بيروت.
2- الإمام الصادق: العلامة محمد جواد فضل الله،
دار الزهراء، بيروت.
3- الإمام الصادق علم وعقيدة: رمضان لاوند.
4- أبو الشهداء الحسين بن علي: عباس العقاد، دار
الهلال، مصر.
5- أعيان الشيعة: العلامة محسن الأمين، دار
التعارف، بيروت.
6- الإمام جعفر الصادق عليه السلام، دراسات
وأبحاث، المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بدمشق
1991م
7- أشعة من بلاغة الإمام الصادق: الشيخ عبد
الرسول الواعظي. |