أن يطالعنا، هذا المنبر الروحي، هنا في رحاب
السيدة زينب بإطلالات عن طليعة أعلام رجال طبعوا التاريخ بالمآثر،
فيعود بنا، إلى أصولية الأصالة، وإلى الخلف الذي هو الإمام... فإن في
الأمر ما يثلج الصدر.
وأن أختار أنا لمحات من الإمام الصادق – ونحن
نشهد ما يشبه الاحتضار المعنوي والأخلاقي والأدبي – فألجأ إلى محطة من
مدرسة أهل البيت، وقد صنعوا الزمن، في زمن أصبح فيه الرجال مصنوعين...
فهذا قمة الاختيار.
اليس بالتطلّع إلى القمم نصعد من القعر،
وباستلهام النور نتخطى الظلمة، وبالسلم العقلي نحقق السلم الأهلي.؟
ألسنا نرقب مستوى الانحدار، وما أتخم به هذا
الزمان، من انهيار محموم، تراجعت معه مسلكية القيم أمام شراسة النزوات،
وانعكس التقهقر المناقبي على الشأن الإنساني العام فأصاب المجتمعات
والأفراد بخطر يدعو إلى الهلع.
لست في حاجة إلى كثير من الدلالات، لأنفي عني
مسحة التشاؤم أو تهمة المبالغة، ونحن نعيش يومياً فصول المأساة
ومعاناتها، نتيجة تلوث الحس المدني والسياسي والأدبي والفكري
والاجتماعي بشهوات الذات، فتسعرت موجة (الأنا) العالمية بخصوصية عاتية
لتسلب عالم الآخرين، وليس من يستشعر إنسانية، ولا يرحم ضعيفاً، ولا
ينصف محقاً، ولا ينصر مظلوماً، ولا يغيث ملهوفاً، ولا يحتضن محتاجاً،
ولا يتخطى أنانية ذاته الحصرية إلى ما هو صالح عام.
فلتكن أذاً، مسيرة الصالحين زاجراً للنفوس
الأمارة بالسوء، (ولمن لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون
بها، ولهم آذان لا يسمعون بها)... ولتكن سيرة الأئمة قدوة يتحصن بها
المصلحون لوأد الفساد في الأرض.
الكلام على الإمام الصادق في أي مجال من رحابه
الواسعات، يشدك قسراً إلى دوحة أهل البيت، فتبهرك كوكبة تلألأت بالورع
والفضائل، وتسحرك إمامة منذورة للجهاد، من أجل البر والفكر حتى
الاستشهاد.
جعفر الصادق. هو حلقة من السلالة المنورة تواصلت
بالتراث العريق أباً عن جد: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن
ابي طالب... تاريخ ملحمي، وثروة فكرية وثورة رسالية خالدة.
أبوه محمد لقب بالباقر، على لسانه تفجر العلم
مرجعاً لعظماء المسلمين، وبكتابه (الهداية) يهتدي كبار الفقهاء، وإلى
مورد فكره يلجأ الرواة الثقات.
جدّه، علي بن الحسين (زين العابدين) هذا التقي
النقي الطاهر العلم...) تصدّر واجهة الحضارة الإسلامية فكراً وأدباً
وتشريعاً، فكانت المدرسة الإسلامية التي أسس، كما المجالس والمسجد
والبيت منابر للمعارف وتهذيب الأخلاق، وانفرد بطلاً لتحرير العبيد، يوم
كان الإنسان سلعة، وكانت التجارة بالإنسان سوقاً رائجة، والدولة تكبل
الأحرار عبيداً وتستحل دم الشعب حراماً.
وعند زين العابدين، تفرض علينا المهابة أن نتوقف
عن التعريف بأبيه الحسين، وجده أبي الحسنين... عندهما يصبح التعريف
مهانة للسامعين.
جعفر الصادق هو ابن هذه المدرسة، وارث أمجاد
البيت الذي لولاه، لاضمحلت روح الدعوة القرآنية، وغرقت الأمة في
ضغائنها والأحقاد، ولما أنطلقت الثورة الشهادية المتوارثة وقد تكللت
مضمخة بالدم الحسيني، وقل لولا المدرسة العلوية لانحرفت رسالة الرسول
في مهاوي الجاهلية، وانحسرت بالأمية عن الأممية، وهامت بين سوء السبيل
وسواء السبيل.
أنه الإمام الصادق، حامل المشعل النبوي خفاقاً
بشذا نهج البلاغة والأرج الكربلائي، إلى حميد الشمائل ونفيس الفضائل
والخلال.
والفضائل الأخلاقية. شرعة الدين هي: وشرعة العلم،
وشرعة النظم الإنسانية، إنها سنة الأنبياء، وسنة الفلاسفة المصلحين،
وهي بالأخص ميزة الأئمة.
أليس الإمام، هو القدوة المتجلية بالقيم الروحية
والخلقية والمثل العليا؟
والنبي أول الأئمة، وإمام الرعية امير المؤمنين،
والقرآن إمام المتعبدين، والإمام رئيس المدينة الفاضلة، وهو فوق ذلك
صفة خصّها الله بالتعظيم:
(أني جاعلك للناس إماماً ومن ذريتي...)
كل آثار الإمام الصادق، مرتبطة إلى حد التلاحم
بمآثره، وتراثه، وتاريخه، وبيئته، وتربيته ومحتده وأخلاقه.
قد يكون الأثر متعارضاً مع المبادئ الأخلاقية
والروحية، فيبرز الأثر وينطفيء الشخص.
ميكاقيلي، نظر إلى علم السياسة منفصلاً عن
الأخلاق والدين، فبرزت نظريته، إلا أنها سقطت معه، من ميزان العلوم
الإنسانية.
وبرز ابن المقفع كاتباً في كليلة ودمنة، ولكنه
سقط من حيث صوابية جدليته الدينية.
هل يستطيع الراوندي وابن حيان والرازي، أن
يحدثوك عن شرائع الدين وحضارة الإسلام والمذاهب الفقهية، فيتلقف
أقوالهم الناس..؟
وهل يستطيع نيتشه أن يرجح اعتقادك بوجود الله
وهو يلعن موت الله...؟
البلبلة الروحية هي مدخل إلى الشطط المناقبي...
والانحرافات الخلقية هي مدخل إلى الضياع الفكري...
والقيمة الفكرية هي خلاصة للمناقب الذاتية..
عظمة الإمام الصادق، أنه عبأ مداركه بنور
الرسالة، وامتلأت ذاته بالقيم الروحية والخلقية، واكتنز بها ومعها
فضائل الدين وافضال العلم.
فالتفسير عند الصادق، وأصول الفقه، ومصباح
الشرائع، والمحبة لأهل البيت، والتوحيد، والإيمان، والفلسفة، والثقافة
الإسلامية، وصولاً إلى الكيمياء، كلها تنسب إلى طهارة النفس، ونفيس
الخلق، وصفاء العقل، وبراءة السلوك، وشفافية الذات.
كان من الجائز أن نتساءل مع الدكتور محمد يحيى
الهاشمي، في كتابه (الإمام الصادق) عن سر هذه الشخصية، (التي لا تزال
غامضة وتحتاج إلى من يكتشف كنهها من المؤرخين..).. لو لم تكن هذه
الشخصية، مطبوعة حتى الإلتصاق بوجدان إنساني ينبعث من إشعاع مثلث: هو
نور الرسالة، ونور العقل ونور القيم... أننا على الأقل نكتشف هذا
المفتاح الذي يبدد الاسرار عن شخصية تجسد وضوحاً في المحسوسات
والملموسات، وتحقق حضوراً إنسانياً في الحاضر ووجوداً حضارياً في
التاريخ.
وإلا.. فكيف استطاعت مدرسة الإمام الصادق أن
تستقطب نحواً من أربعة آلاف طالب، ومنهم أعيان الأئمة والأعلام، نشروا
معه وبعده كل نداء للتسامي الإنساني والروحي..؟
وكيف تنتشر معارفه وحركته العلمية على اتساع
العالم الإسلامي في كل حواضره. (فنقل الناس عن جعفر بن محمد من العلوم
ما سارت به الركبان وانتشر في جميع البلدان) كما جاء في كتاب الصواعق
لابن حجر.
ولعل المفارقة الأهم، أن يجمع الرأي على الإمام
الصادق، في عصر شهد من الانشقاقات أخطرها، وأن يصطلح المذهب الجعفري
والفقه على يده، ويستقي أئمة السنة من فقهه رواية الحديث.
يقول الشيخ الأزهري محمد أبو زهرة في كتابه
الإمام الصادق:
(ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم في
أمر، كما أجمعوا على فضل الإمام الصادق وعلمه..).
لقد تميزت مدارس الصادق بأحكام الفقه وشؤون
الدين والآداب، والإصلاح الاجتماعي والفلسفة والعلوم، إلا أن عنوانها
الأبرز كان مطبوعاً بالقيم والفضيلة ومكارم الأخلاق، لتتجند في خدمة
الإنسان.
وأن ثمة تلازماً بين روح الشرع وأصول العلم
والمبادئ الإنسانية، بحكم أن خصائص الرسالات والشرائع الفلسفية
والروحية، تنطلق من اعتبار الإنسان المحور الجوهري في الوجود.. (وكرمنا
بني آدم وفضَّلناهم...).
وهذا المحور الإنسان هو هدف النشاط المطلق،
والقيمة الفضلى التي تحقق ذاتها بآداب الذات وتفتح العقل على المعرفة..
حتى العبادة إن كانت مغلفة بالجهل، فقد تحمل معها شيئاً من الكفر، وإن
كان كفراً بريئاً، الا يقول النبي: (فضل العلم خيرٌ من فضل العبادة...؟)
على أن الإمام الصادق يذهب إلى اعتبار العلم
مرادفاً لغاية الحياة فيقول: (لا ينبغي لمن لم يكن عالماً أن يعد سعيداً)
وهو يسند ذلك إلى (العقل دعامة الإنسان)، والعاقل بمفهوم الصادق هو
الفاضل.
لقد أجمع المفكرون، على أننا بالمعرفة وحدها لا
نستطيع أن نحيا إنسانيتنا، إلا أذا سلكنا الحياة وفق منهج أخلاقي
عنوانه الفضيلة.
أن المرتكز الذي بنى عليه الإمام الصادق أفكاره
وآراءه، وهو الذي أنطلقت منه نظريات أعلام الفلاسفة والمصلحين أمثال:
شيشرون في كتابه (الجمهورية) وجان لوك، وروسو، ومونتسكيو، وتوما
الاكويني، وابن خلدون في (علم الأخلاق)، والفارابي (بآراء أهل المدينة
الفاضلة) والقديس أوغسطينوس في (مدينة الله).
ويستوقفني تحديداً، أرسطو وأفلاطون بالمقاربة
والمقارنة مع الإمام الصادق، لا لأن طريقة الإمام الصادق كما يقول
الأستاذ دونالدسون (كانت سقراطية في التدريس..).
بل لأن الظروف السياسية والاجتماعية المتشابهة
التي تصدى لها أفلاطون بأكاديميته، هي ذاتها التي تصدى لها الإمام
الصادق بأكاديمية مماثلة.
لقد كان أفلاطون، أول من حاول استنباط الوعي
العميق بالتلازم بين المعرفة والفضيلة، ولأن السياسيين الذين عرفهم
أثاروا في نفسه الاشمئزاز، كان لا بد من إنشاء اكاديمية يربي فيها رجال
دولة وسياسيين جدداً، لا انتهازيين، ولا غوغائيين.
إنها تماماً مهمة الإمام الصادق الذي عايش عهد
الفساد الأموي واضطهاداته الدموية، وواجه مظالم الثورة العباسية
وفواحشها.
لا... لم يكن الإمام الصادق صامتاً محايداً
فأعرض عن الحرب – كما اتهموه – وعن إنقاذ أسس العقيدة والتشريع، لقد
شنّها حرباً بلا هوادة على الهراقطة والغلاة والطغاة والملحدين، وامتشق
السلاح الأمضى في معمعة الانحراف الديني والفكري والخلقي، فأنشأ جيشه
المظفر. جيش الأربعة آلاف طالب، يعده حارساً أميناً للكيان الإسلامي،
وجيلاً سياسياً صالحاً، مهيأ لتسلم مقاليد الدولة وصيانة حق الشعب، في
مواجهة الغوغائيين والانتهازيين الذين أثاروا أيضاً في نفسه الإشمئزاز.
أن الخصائص التي يتحلى بها الأدب الفكري عند
الإمام الصادق، هي خلاصة الآداب الشخصية التي تميزت بها مدرسة آل البيت،
فلم ينفصل الأثر الأدبي عن السيرة الذاتية، بل تفاعل معها إلى حد
الانصهار الكامل، لينعكس على كل مجالات الفكر العلمي والفقهي والسياسي
والاجتماعي والروحي في آن.
وليس من المصادفات أن نسمع الإمام الصادق في
قوله: (كونوا دعاة الناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاة بألسنتكم..) إلا أن
يكون مستوحي من قول الإمام علي بن أبي طالب: (من نصب نفسه للناس إماماً
فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه
بلسانه...).
وفي عينة أخرى تتناول أدب الدعاء عند الإمام
الصادق. (إلهي اعترف لك بذنوبي، ها أنذا قد استجرت بك... أعوذ بجلال
وجهك الكريم أن يطلع الفجر من ليلتي هذه ولك عندي تبعة أو ذنب تعذبني
عليه يوم ألقاك..).
هذا الانسياب الروحي في قالب الكلمة وحرارتها
الإيمانية، يتناغم مع قول الإمام علي: (ندعوك... أن لا تؤاخذنا
بأعمالنا ولا تؤاخذنا بذنوبنا، اللهم أنشر علينا غيثك وبركتك. ورقتك
ورحمتك...).
القدوة الحسنة والآداب النفسية والفكرية عند
أئمة أهل البيت تلتحم بصفات إنسانية متكاملة متناغمة تلتقط العقل
والإحساس معاً، في صور متكاملة الجمالية والصدق.
وتبدو اللغة مطواعة بليغة الوقع في أي مجال كان:
في الأدب والفقه والتاريخ والفلسفة، بالأدعية والحكمة والوصايا
والرسائل والتحليلات العلمية والأدلة العقلية على اختلافها.
في آثار الإمام الصادق لا ترى اثراً للتصنع
والتصنيع، بل تأتي القيمة الفكرية مترابطة مع القيمة الفنية، فإذا
المضمون عميق الغنى، متنوع المعرفة، بكل ما يتصل بشؤون الدين والدنيا،
مع بلاغة يصفها بأنها (الدلالة بالقليل على الكثير..).
ويمتاز الصادق بعلم الكلام، فيسجل فيه مأثرة
خاصة، وفقت بين التعارضات التي تجاذبت علم الكلام في الغرب المسيحي كما
في الشرق الإسلامي، فإذا كان ديكارت في الغرب قد حطم الثقافة لمصلحة
العقل، والغزالي في الشرق أطاح الثقافة لمصلحة الإيمان، فإن أهمية
الإمام الصادق، انه جمع في علم الكلام بين الثقافة والإيمان، وبين
الإيمان والعقل.
الثقافة والإيمان والعقل هي الإمام الراشد
للبشرية في كل آن وزمان ومكان، وهي تطرح ذاتها بإلحاح أشد في هذا
الزمان العاصف بالوثنية والجور والجهل، حيث التوتر والاضطراب والعنف
والإرهاب عناوين أصولية تلتهم الحضارة بقوة غاشمة.
أفما آن لمن تقلص فيهم ظل الله، من قوى الشر
وقوى الاستكبار والدمار أن يهتدوا بنور الأئمة ليحل في الأرض إذ ذاك
سلام مبين رحمة للعالمين.
فتعالوا إذاً، أيها الهائمون في الغي نرتشف بعضاً
من مناهل الإمام الصادق، وعبق الأرومة المباركة من أهل البيت، فنتعاون
على الخير والتقوى ونصبح بنعمة الله إخواناً.
والسلام عليكم وعليهم
وعلى من أتبعهم مسترشداً.
جوزف الهاشم
وزير لبناني سابق |