الدبلوماسية العراقية وسياسة تضييع الفرص

 

شبكة النبأ: الدول الناجحة في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدبلوماسية، تفكر بالدرجة الاولى في كيفية فرض واقعها السياسي ورؤاها إزاء الاحداث ومختلف القضايا من خلال الاستفادة القصوى من فرص التقاطع في المصالح بين دول متجاورة في محيط اقليمي او في محيط دولي. فهي لا تنظر الى طرف واحد يعيش لوحده، إنما تنظر الى مجموعة اطراف ذات مصلحة مع هذا الطرف، بمعنى أن لا وجود لعلاقات ثنائية بحتة في عالم اليوم. نعم؛ كان كذلك في العهود الماضية، عندما كانت الدول والانظمة  السياسية في العالم محدودة، ربما تُعد بعدد اصابع اليد، حيث كانت تضم الامبراطوريات والدول الكبرى مجموعة ولايات ومقاطعات وشعوب، بينما اليوم، تسببت تعدد الدول على الخارطة السياسية، تعدداً في المصالح والرؤى والاهداف وحتى المذاهب السياسية.

هذه الحقيقة، يبدو أن الدبلوماسية العراقية لا تعيرها أهمية تذكر، إنما تلتزم في الوقت الحاضر، بمنهج الإرشاد والوعظ السياسي – إن صحّ التعبير- فالحديث عن حسن الجوار والمصالح المشتركة، ومواجهة المخاطر والتحديات، في مقدمتها الارهاب، وغيرها من العبارات الشعاراتية، لا يجد له مكاناً سوى في المجاملات والاحاديث الجانبية بين وزير الخارجية العراقي ونظرائه الذين التقاهم خلال الايام القليلة الماضية. ومع وجود حسن نية الدكتور ابراهيم الجعفري، إزاء الخطاب الذي يتلزمه في محادثاته مع نظرائه الذين التقاهم خلال جولته المكوكية على دول الجوار التي زار خلالها تركيا ودولاً خليجية ثم ايران، بيد ان الواضح للحصيف والمتابع، و ربما للدكتور الجعفري ايضاً، أن هذه الدول تفكر بأكثر مشكلة وأزمة وهي تسعى لتحقيق مصالحها من خلال العراق.

وقد لخّص الدكتور الجعفري منهجه في السياسة الخارجية، بأننا " نتعامل بسياسة الثنائيّة العراقيّة مع أيِّ دولة من دول الجوار؛ ولأنَّ دول الجوار تختلف فيما بينها فنحن ابتداءً نبحث عن المُشترَك بيننا وبين هذه الدول بحيث نـُبقي العلاقة مع كلِّ هذه الدول ثابتة وغير مُتصدِّعة، وبعد ذلك ننتقل إذا أمكننا أن نـُقرِّب بين هذه الدول، وإلاّ فلا أقلَّ أن نـُحافِظ على علاقتنا معها".

هنا ثمة ملاحظة جديرة بالانتباه لابد من تسجيلها على الدبلوماسية العراقية – من جملة ملاحظات طبعاً- علّها تكون إضاءة في الطريق نحو تحقيق المصلحة العراقية العليا ويحفظ للعراق والعراقيين كرامتهم ويستعيد مكانتهم بين شعوب المنطقة والعالم.

فهنالك تصور، لم ينشأ اليوم، إنما نشأ مع نشوء الدولة العراقية الجديدة، فقد بنى الساسة العراقيون، وربما الدكتور الجعفري يكون في المقدمة، على أن أصل المشكلة في علاقاتنا الدبلوماسية والخارجية، ليست بين الدول والعراق، إنما هي مشاكل فيما بين هذه الدول على العراق...! ولمن يراجع الفترة التي تسنّم فيها الجعفري رئاسة الحكومة عام 2006، والتي لم يدم فيها اكثر من سنة، تتضح له اللهجة التي كان يستخدمها حيال عواصم المنطقة، رغم أن الدلائل والشواهد كانت واضحة على انغماس اكثر من دولة مجاورة في الجرائم والفضائع التي ارتكبت ضد الشعب العراقي، من ذبح ونسف وقتل بالجملة وعلى الهوية. وعندما سُئل ذات مرة عن سبب تأخر العواصم العربية عن فتح سفاراتها في بغداد، قال: "... انها مسألة وقت". وقد عدّت بعض الاوساط الاعلامية والسياسية في العراق مشاركة العراق في رئاسته في "مؤتمر المصالحة" الذي عقد في القاهرة في العام نفسه، وبرعاية الرئيس المصري المخلوع "حسني مبارك"، خطوة دبلوماسية متقدمة لاحتواء الاعداء والمعارضين والتوصل الى حلول تثنيهم عن مواصلة مسيرة القتل والاثارة الطائفية والمنهج الطائفي والتكفيري. بيد أن كل هذا لم يحصل، بل زاد المعارضون والارهابيون صلابة فوق صلابتهم، واتخذوا ذلك المؤتمر منبراً للتعبير عن رؤاهم الخاصة إزاء العراق الذي يجب ان يكون، وكان في المقدمة آنذاك، حارث الضاري، أحد اركان الارهاب الطائفي.

وعندما برزت ظاهرة ارهابية جديدة في العراق، باسم "داعش"، ثم تسنّم الجعفري مسؤولية الدبلوماسية العراقية، عاد الى نفس المبدأ والمفهوم في نهجه الخاص في العلاقات الدبلوماسية، فهو يتصور إن وجود "عدو مشترك" لدول الجوار، من شأنه ان يزيل الصدأ عن علاقات العراق مع هذه الدول، ويجعلها تلين وتتغير نحو المساعدة والتضامن مع العراق، في علاقاتها الدبلوماسية وفي دعمها للحرب على الارهاب، الى جانب المجال الاقتصادي. بيد أن هذا لا يتحقق بالمجاملات والشعارات، فالسعودية والبحرين وتركيا – مثلاً- لا ينفكوا يتحدثون عن الارهاب الذي يهددهم، ويناشدون العالم بالنجدة والمساعدة. فتركيا تستغيث من حزب العمال الكردستاني، والسعودية من "تنظيم القاعدة" وفلوله وأذنابه من التيار السلفي – التكفيري، وفي البحرين فان السلطة هناك، تعد ابناء الشعب من الارهابيين لانهم يطالبون بحقوقهم في مسيرات سلمية في الشوارع! بمعنى ان طرفاً ثالثاً كان يجب البحث عنه بين العلاقات الثنائية، بحيث يكون عامل الضغط او التوازن مع الجانب الآخر.

المراقبون يشيرون على أن العراق، كان بامكانه تحريك ورقتين ذهبيتين لقلب المعادلة الدبلوماسية كاملة على دول الجوار وغيرهم:

الاولى: تتعلق بالوضع الداخلي، فان العراق، هو المتضرر الاساس للارهاب ، وهو الذي يجب ان يتحدث عن الآثار العميقة للارهاب في الواقع الاجتماعي والسياسي والامني، وليس الآخرون. وهذا يمكن الدبلوماسية العراقية من أن تخاطب الجوار بلهجة لا تخلو من عتب ولوم عن التأخر في دعمه ومساندته أمام الجماعات التكفيرية والدموية، فضلاً عن الحديث، بالأدلة والشواهد، بخصوص العناصر والجماعات التي تغذّت بالفتاوى والاموال، فيما تحولت دول الى جسر طويل وآمن لمئات الارهابيين والانتحاريين الذين ازهقوا أرواح الآلاف من النساء والاطفال والابرياء من الشعب العراقي.

أما الورقة الثانية؛ فهي العلاقات المتميزة التي يحظى بها العراق مع العواصم الكبرى، في مقدمتها واشنطن، وهي علاقات ذات طابع خاص، تميزه عن دول الجوار، حتى تلك التي تحظى بمكانة لدى الاميركان مثل تركيا والسعودية، كون واشنطن تعد أي فشل في العراق، مسحوباً عليها، لانها هي التي وعدت العالم بإنشاء بلد ديمقراطي على انقاض نظام ديكتاتوري. وكان بامكان الدبلوماسية العراقية الاستفادة من هذه الورقة للتعامل الحسن والذكي مع ايران التي تعيش حالة صراع ونزاع مع اميركا والغرب بسبب المشروع النووي، وان يكون العراق في موقف قوي وصاحب المبادرة، وفي الفترة الراهنة سقطت تركيا وقبلها السعودية في اختبار عرض العضلات من خلال دعم الجماعات الارهابية، فقد تحول البلدان في نظر واشنطن والغرب- ولو خلال فترة معينة- الى ما يشبه الفيروس الذي يهدد جسم الديمقراطية في العراق وايضاً الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي.

بيد ان هذا لم يحصل بالمرة، إنما حصل العكس، ان تحول العراق الى بؤرة المشكلة والازمة التي يتوقع من الدول الجوار وغيرها مد يد العون اليه لمواجهة "داعش"! علماً انه بات من المسلّمات وجود العلاقة العضوية بين هذا التنظيم والافكار التي تقف خلفه، وبين الدول الراعية له وللارهاب التفكيري – الدموي، بما يعني عدم وجود أعداء حقيقيين لهذا التنظيم بين دول الجوار العراقي، فضلاً عن دول اخرى في المنطقة.

اكثر من هذا، بات على العراق أن يكون هو المطالب بتسديد فواتير العلاقة الجديدة إن اراد ذلك، وعليه أن يغض الطرف عن ماضي الدول وسياساتها وما تورطت فيه من جرائم وانتهاكات بحق الشعب العراقي، بل على العراقيين ان لا يناقشوا هذه الدول في شيء من سياساتها، حتى وإن تناقضت مع مبادئ العلاقات الثنائية والمصالح المشتركة. مثال ذلك؛ البحيرين، الذي يشهد انتهاكات فظيعة لحقوق الانسان، وقد بلغ الوضع الداخلي حدّاً ان تتفق جميع اطراف المعارضة على عدم مشروعية النظام الحاكم – ربما لأول مرة-، مع تزايد السياسات القمعية ضد الشعب البحريني المطالب بحريته وكرامته، لذا نجد الارهاب الذي تحدث عنه المسؤولون في البحرين أمام وزير الخارجية العراقي، يمارس بشكل يومي في الشارع البحريني، بينما نجد الترحيب من الدكتور الجعفري بفكرة تشكيل قوة خليجية لمواجهة عصابات "داعش"، على أساس مبدأ أن "ما يمس بلدنا سيهدد دول الجوار الأخرى مثل إيران والسعودية وتركيا وسورية والكويت والأردن، ولا يمكن أن يتم الفصل بين هذه الدول، ومن الطبيعي أن تقف إلى جانب العراق حتى لا ينتقل إليها".    

نفس القضية يثيرها المراقبون مع تركيا وايضاً السعودية على وجه الخصوص، فهي ليستا في وضع يؤهلها لأن تكون صديق للعراق، يتحدث معها ضمن علاقات ثنائية مع مراعاة المصالح المشتركة وغير ذلك... إنما النظر في الطرف الثالث وهو  الغرب الذي ينظر حالياً بعين الانتقاد والتقريع لهذين البلدين لما تسببا فيه من تهديد أمن المنطقة والعالم من خلال دعمهما الجماعات الارهابية باشكال مختلفة، وهذا مايجب استثماره دبلوماسياً بالتحرك دولياً بموازاة التحرك اقليمياً وممارسة ضغوط غير مباشرة على هذه الدول حتى تكون هي المبادر للتنازل وتسديد الفواتير والتعويض عما ألحقته بالعراق من خسائر فادحة، لا أن تكون عامل مساعد على خروج هذه الدول وغيرها من عنق الزجاجة والاتهامات الدولية برعاية الارهاب، ويقدمها العراق على أنها من شريك حقيقي لمكافحة الارهاب والجماعات التكفيرية – الدموية التي تسللت من حدودها وأوغلت في دماء الابرياء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 10/كانون الأول/2014 - 17/صفر/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م