الفهم السياسي وتجاوز مرحلة التخلّف

 

شبكة النبأ: يؤكد المفكرون والباحثون على أن الوعي السياسي لدى أي شعب وأية أمة، من أهم مقومات النهوض والتطور والتقدم، نظراً الى انه يعني مباشرة بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين القاعدة والقيادة، وبين المواطن ومؤسسات الدولة. وبمقدار هذا الوعي ومستواه، يتم تقييم قدرة ذلك الشعب والبلد على تحقيق المكاسب والقفزات نحو الامام، فاذا كانت الديكتاتورية، نمط الحكم المقبول والدارج في المجتمع، فمن الصعب التفكير بحرية الرأي والمعتقد، والتفكير بالتطور الاقتصادي، فضلاً عن التفكير في التجربة الديمقراطية وحق الشعب في تقرير مصيره وغير ذلك.

هذا الوعي، يطلق عليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- بـ "الفهم"، وقد عنون كتاب خاصاً حمل اسم "الفهم السياسي". حرصاً منه لتكريس هذه الثقافة في الاوساط الاجتماعية، مستشهداً بشخصية نبي الله ابراهيم، عليه السلام، الذي وصفه القرآن الكريم في الآية المباركة: {إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً}، وذلك – يقول سماحته- لرشده ووعيه وثقافته الدينية والدنيوية العالية.

ولسماحة الامام الراحل تجربة مريرة مع المستوى المتدني للثقافة السياسية او "الفهم السياسي" في المجتمع، وتحديداً في العراق خلال العقود الماضية، حيث تسبب فقدان هذا الفهم الى ايجاد فراغ كبيرة في الساحة مكّن التيارات الوافدة والافكار الدخيلة لأن تخلق وجودات سياسية تصنع لها اسماء ورموز ثم تفرض نفسها على الناس عندما تقترب من السلطة او تستولي عليه فيما بعد، فتتحول الى أمر واقع، ولعل تجربة نظام حزب البعث في العراق، من ابرز الامثلة القريبة التي طالما كتب عنها وتحدث بشأنها سماحته كثيراً جداً، وهو يقدم البديل الصحيح الذي ينتشل واقع الشعب العراقي من الجهل السياسي والتسطيح الى حيث الوعي والفهم الشامل بكل ما يجري، بحيث يصل الى المستوى الذي يعرف كيف يختار؟ ولماذا يختار؟ وعند من يضع ثقته.

يبقى السؤال عن السبيل الى تحقيق هذا المطلب والطموح؟.

البعض ربما يذهب الى أن السياسة هي التي تأتي بالسياسة...! وهو ربما يكون على جانب من الصحّة، فالوسائل ذات الصبغة السياسية، من شأنها ان تساعد على إيجاد الوعي والفهم بالسياسة، مثل الاحزاب والاعلام وبعض الفعاليات السياسية، من قبيل الندوات والملتقيات والمطبوعات الدراساتية وغيرها... بيد أن الفهم الذي يُعول عليه إنهاض الشعب والأمة وجعلها حيّة و مقدامة على طريق التقدم، لايمكن ان يأتي من خطوات خاصة بتثقيف حزبي خاص، او بنشاط فئوي يعود الى مصلحة شخصية او لترميز معين. إن القضية حياتية – بالحقيقة- فبقدر تدخل السياسة في كل شؤون الحياة في الوقت الحاضر، لابد أن يكون الفهم والوعي شاملاً بنفس الاطار الواسع، بل أوسع منه وأشمل، بحيث يمكننا القول حينئذ: "أننا ملمّون بالسياسة..."، ولو بنسبة معينة.

مثالنا في ذلك؛ العراق، فهو عرف أن الديمقراطية هي السبيل لتأسيس نظام حكم يحترم ارادة الشعب ويشاركه في اتخاذ القرار ويعمل لخدمته وتحقيق مصالحه و.... ولكن؛ هل يتم ذلك من خلال صناديق الاقتراع يوم الانتخابات وحسب؟. أم بمعرفة الآلية والطريقة المثلى لممارسة هذا النوع من الحكم، حتى يعرف – على الاقل- من يفوز في الانتخابات، بانه أمام أناس إنما أدلوا باصواتهم مع كل قواهم الثقافية والمعرفية، ولم يأتوا بدافع العاطفة والحماس او مسايرةً او التأثير بالشعارات والوعود، او درءاً للمخاطر وغير ذلك.

من هنا؛ نلاحظ سماحة الامام الراحل يضع "الفهم السياسي" في مرتبة عليا من النضج المعرفي والثقافي، فاذا اردنا تحقيق الفهم السياسي "علينا بالجهاد الفكري والجهاد العلمي ضد الجهل، بكل الوسائل المتاحة والمشروعة، بالقلم واللسان...".

إذن؛ القضية ليست بالسهولة التي نتصور. فالنضج الذي نتحدث عنه يجعل الشعب – في العراق وأي بلد آخر- في مستوى راقٍ من الوعي والفهم بحيث ينافس ويطاول الساسة ومن يقف خلفهم من مفكرين وممولين وعقول تخطط وعيون ترنو الى السلطة، والنتيجة هو الصراع المحتوم بين التسطيح والتضليل وبين التوعية. لذا نلاحظ سماحة الامام الراحل في عديد مؤلفاته واحاديثه يؤكد على خوض هذا المعترك بلا هوادة من قبل الشريحة المثقفة، ويحدد بالاشارة الى علماء الدين وطلبة الحوزة العلمية، ويذكر بالمقولة الكاذبة التي تروج لعداء الحوزة العلمية والعلماء مع السياسة، وأن "العلماء لا يتدخلون في السياسة"، مؤكداً أن مصدر هذه المقولة، يعود الى الدوائر المخابراتية – الغربية، لإيهام الناس بأن الدين لا يمكنه ان يتعايش مع السياسة، إنما حدوده في المسائل العبادية والروحية وتطبيق الاحكام الدينية، ولا شأن له بأمور الدولة وحياة الناس ومصائرهم.

إن الظروف الراهنة كلها مؤاتية لعملية النضوج السياسي ووصول الناس الى المستوى المطلوب من "الفهم السياسي" بعد التحديات الماحقة التي احتوشت شعوبنا في العراق وسوريا والخليج ومناطق اخرى، جعلت فقدان هذا الفهم بمعنى خسارة الكثير من فرص التقدم والتطور السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 27/تشرين الثاني/2014 - 4/صفر/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م