شبكة النبأ: لا أحد يعلم الغيب، تلك
حقيقة مقررة لا نقاش فيها، والمستقبل بالنسبة للانسان يدخل في هذا
المجال، لكن معرفة هذا المستقبل عبر الادلة والقرائن والمقتضيات، متاح
نسبيا لكل من علم بالمقدمات اللازمة وانتقل منها الى تطبيقها، فالرؤية
المستقبلية كما يرى الامام الشيرازي الراحل، وان كانت نوع غيب بالمعنى
اللغوي، ولكنها تختلف تماما عن معناه الاصطلاحي..
يعتبر عالم الاجتماع الأمريكي جيلفيلان (أول باحث استخدم تعبير علم
المستقبل في أطروحة تقدم بها إلى جامعة كولومبيا لنيل درجة الدكتوراه
عام 1920... كما أطلقه عام 1943 عالم السياسة الألماني أوسيب فلختايم
الذي كان يدعو لتدريس المستقبليات منذ عام 1941، وكان يعني به إسقاط
التاريخ على بعد زمني لاحق..
يعرف (علم المستقبل) بانه: ( العلم الخاص بالتنبؤ بالأوضاع السياسية
والاقتصادية والاجتماعية في المستقبل. ويستند في دراستها على الاستقراء
والاستنباط، بجمع الوقائع الفردية المتعددة ليستخلص منها المبادئ
العامة التي تحكمها، ويخرج بعد ذلك بالصور التي سيكون عليها المجتمع في
الأجيال القادمة).
اما الدراسات المستقبلية المتعلقة بعلم المستقبل فهناك عدة تعريفات
لها، منها:
1- الاستشراف الممنهج للمستقبل، وخاصة من منطلق الاتجاهات الحالية
في المجتمع.
2- العلم الذي يرصد التغير في ظاهرة معينة ويسعى لتحديد الاحتمالات
المختلفة لتطورها في المستقبل، وتوصيف ما يساعد على ترجيح احتمال على
غيره.
3- مجموعة من الدراسات والبحوث التي تهدف إلى تحديد اتجاهات
الأحداث، وتحليل مختلف المتغيِّرات التي يمكن أن تؤثِّر في إيجاد هذه
الاتجاهات، أو حركة مسارها.
4- اجتهاد علمي منظَّم، يرمي إلى صوغ مجموعة من التنبُّؤات
المشروطة، والتي تشمل المعالم الرئيسة لأوضاع مجتمع، أو مجموعة من
المجتمعات، وعبر فترة مقبِلة تمتدُّ قليلاً لأبعد من عشرين عامًا،
وتنطلق من بعض الافتراضات حول الماضي والحاضر، ولاستكشاف أثر دخول
عناصر مستقبلية على المجتمع، ونوعية وحجم التغيُّرات الأساسية الواجب
حدوثها في مجتمعٍ ما، حتى يتشكَّل مستقبله على نحوٍ معيَّن منشود.
وخلاصة التعاريف بأن الدراسات المستقبلية علم جديد يهدف الى أمرين:
1- كشف المستقبل المحتمل: رسم صور تقريبية محتملة للمستقبل بقدر
المستطاع، من خلال دراسة المتغيرات التي تؤدى إلى حدوث هذه الاحتمالات.
2- صناعة المستقبل المطلوب: تخطيط بعيد المدى على أساس التحكم
العلمي في عناصر التغيير بما يتفق ورغبات مجموع الأفراد الذين يمسهم
هذا المستقبل.
وتعــرف الجمعية الدولية للمستقبليات الدراسات المستقبلية على أساس
طبيعتها في أربعة عناصر رئيسية هي:
1- أنها الدراسات التي تركز على استخدام الطرق العلمية في دراسة
الظواهر الخفية .
2- أنها أوسع من حدود العلم ، فهي تتضمن الجهود الفلسفية والفنية ،
جنباً إلى جنب مع الجهود العلمية .
3- أنها تتعامل مع نطاق لبدائل النمو الممكنة ، وليس مع إسقاط مفردة
محددة على المستقبل .
4- أنها تلك الدراسات التي تتناول المستقبل في آماد زمنية تتراوح
بين خمس سنوات وخمسين عاماً .
للدراسة المستقبلية عدة مزايا :
1- الدراسة المستقبلية تعالج عدداً كبيراً من المتغيرات والعوامل
التي تؤثر على الظاهرة موضوع البحث .
2- توجه انتباهنا إلى مواقع الضعف أو الخطر في الظاهرة المدروسة
والتي تظهر من خلال الدراسة وإعداد المشاهد .
3- تفيد في الاستعداد والإعداد لما يلزم لمواجهة أي مستجدات أو "
متطلبات " المرحلة المستقبلية من الظاهرة .
4- توفر الدراسة المستقبلية المعلومات الضرورية التي تخدم واضعي
البرامج والاستراتيجيات ومتخذي القرار في الدولة ، وهي بهذا المعنى أمر
ضروري للمجتمعات المتقدمة والمتخلفة على حد سواء.
تتبلور أهمية الدراسات المستقبلية في مجالات الحياة المختلفة، في
سبعة مستويات وهي:
1- رسم خريطة كلية للمستقبل من خلال استقراء الاتجاهات الممتدة عبر
الأجيال والاتجاهات المحتمل ظهورها في المستقبل والأحداث المفاجئة.
2- بلورة الخيارات الممكنة والمتاحة، وترشيد عمليات المفاضلة بينها.
3- التخفيف من الأزمات عن طريق التنبؤ بها قبل وقوعها، والتهيؤ
لمواجهتها.
4- تعدّ الدراسات المستقبلية مدخلًا مهمًا ولا غنى عنه في تطوير
التخطيط الاستراتيجي القائم على الصور المستقبلية.
5- الاستشراف المستقبلي سيصبح أكثر أهمية مما هو عليه اليوم، حيث
يجب أن نفكّر في التأثيرات المعقّدة لتحديات مستقبلية ذات طابع جماعي،
من أمثلتها، "التهديد النووي و"التغيّرات المناخية وما سيصاحبها من
ظواهر الغرق والتصحر والجفاف"..
6- ترشيد عمليات صنع القرار من خلال توفير مرجعيات مستقبلية لصانع
القرار، واقتراح مجموعة متنوعة من الطرق الممكنة لحلّ المشكلات..
7- زيادة المشاركة الديمقراطية في صنع المستقبل وصياغة سيناريوهاته،
والتخطيط له.
في كتابه (فقه المستقبل) ينطلق الامام الراحل محمد الشيرازي (قدس
سره) من حديث للامام الحسن (عليه السلام) وهو قوله: (إعمل لدنياك كأنك
تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).
ويرى في هذا الحديث دعوة صريحة للإنسان بأن يسمو ويرتفع دائماً،
ويؤثر الأهداف الكبيرة على الأهداف الصغيرة.
والاهداف الكبيرة التي عناها الامام الراحل هي التي (تتجلى في حاجات
المستقبل الواسعة)، وعليه يكون المستقبل هو (البرنامج الذي يضعه
الإنسان لتحقيق أهدافه الكبيرة).
من هنا تاتي دعوة الامام الراحل للاهتمام بالمستقبل، لكي يكون
الانسان على استعداد تام لاستقبال الغد والتكيّف معه، وربطه بالحاضر
والماضي حتى لا ينقطع المستقبل عن الماضي والحاضر.
كيف يمكن مواكبة المستقبل حسب الامام الراحل؟
يتم ذلك من خلال:
الريادات.
رصد الاحتمالات.
التخطيط السليم.
القرارات الصائبة التي يتخذها روّاد الأمة وعلماؤها.
لماذا التخطيط للمستقبل، ومحاولة استشرافه؟
يرى الامام الراحل، ان الانسان الذي يعي المستقبل، فانه يخطط له
براحة ، ولو حلت الكارثة، كأن تكون اقتصادية او سياسية او بيئية، فانه
يستطيع التعامل معها واحتواءها، (لأنه قد تدبّر لكل أمرٍ أمراً، ووضع
لكل احتمال حلاً).
لان هذا الانسان متطلع دائماً للزمن القادم، ومثل هذا الانسان الذي
يتطلّع إلى ما قد سيحدث له في المستقبل، ويميز الأخطار، والفرص
المواتية، سيأمن جانبه، وسيبعد عن نفسه الأخطار المهلكة وسيستفيد من
الفرص الآتية.
أما أولئك الصنف من الناس الذين فرضوا على أنفسهم العزلة عن التفكير
بالمستقبل، فيصفهم الامام الراحل، (إنهم عادة ما يصبحون محرقة للأحداث
القادمة)، لان صدمة المستقبل لا رادّ لها إذا لم نستعد إليه ونكتشف
أجزاءه، ونتحدى آثاره الوخيمة.
يصنف الامام الراحل، الناس الى صنفين:
المنكفئون على انفسهم، وهم المتشائمون عادة، وهم الذين لا يفهمون
المستقبل ولا يعدّون أنفسهم لأخطاره.
المتفائلون الذين حلّوا لغز المستقبل واستطاعوا أن يقهروا تحدياته،
وأن يقفوا عند إيجابياته ليستثمروها.
ينطلق الامام الراحل في دعوته الى الاهتمام بالمستقبل، من بديهية
هي، ان المستقبل ليس ثابتاً، ولا هو نهائي الشكل لا يمكن تغييره، بل هو
مشتمل على مجموعة من البدائل التي يضعها الإنسان أمامه، والتي يستطيع
أن ينفذ إلى أجزائه، فيختار ما يراه صالحاً. |