الإيبولا والتفاوت بين الناس

جوزيف ستيغليتز

 

نيويورك ــ إن أزمة الإيبولا تذكرنا مرة أخرى بالجانب السلبي من العولمة. فليست الأشياء الطيبة فقط ــ مثل مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين ــ هي التي أصبحت قادرة على عبور الحدود بسهولة أكبر من أي وقت مضى؛ بل تعبرها أيضاً تأثيرات خبيثة مثل المشاكل البيئية والأمراض.

وتذكرنا هذه الأزمة أيضاً بأهمية الحكومة والمجتمع المدني. فنحن لا نلجأ إلى القطاع الخاص للحد من انتشار مرض مثل الإيبولا، بل نلجأ إلى المؤسسات ــ مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة أطباء بلا حدود، تلك المجموعة الرائعة من الأطباء والممرضين الذين يخاطرون بحياتهم لإنقاذ حياة آخرين في البلدان الفقيرة في مختلف أنحاء العالم.

بل إن حتى المتعصبين من جناح اليمين الذين يريدون تفكيك مؤسسات الحكومة يلوذون بها عندما تواجههم أزمة كتلك التي أحدثها مرض الإيبولا. وربما لا تقوم الحكومات بمهمتها على الوجه الأمثل في معالجة مثل هذه الأزمات، ولكن أحد الأسباب التي تجعل أداء الحكومات ليس على المستوى المأمول هو أننا لا نمول الهيئات ذات الصلة على المستويين الوطني والعالمي بالقدر الكافي.

وتحمل لنا مسألة الإيبولا المزيد من الدروس. فمن بين الأسباب وراء انتشار المرض بهذه السرعة في ليبيريا وسيراليون أن هذين البلدين مزقتهما الحرب، حيث يعاني عدد كبير من السكان من سوء التغذية فضلاً عن الدمار الذي لحق بنظام الرعاية الصحية.

وعلاوة على ذلك، فحيثما يلعب القطاع الخاص دوراً أساسيا ــ تطوير اللقاح ــ فإن الحوافز التي قد تدفعه إلى تكريس الموارد لعلاج الأمراض التي تبتلي الفقراء أو البلدان الفقيرة تكون ضئيلة. ولا تكون دوافعه قوية للاستثمار في اللقاحات لمواجهة أمراض مثل الإيبولا إلا عندما تكون بلدان متقدمة مهددة.

وهذا ليس انتقاداً للقطاع الخاص، ذلك أن شركات الأدوية لا تزاول أعمالها بدافع من طيبة القلب، ولا يعود عليها علاج الأمراض التي تصيب الفقراء أو الوقاية منها بأي ربح. بل إن التساؤل الحقيقي الذي يثيره وباء الإيبولا يدور حول باعتمادنا على اضطلاع القطاع الخاص بأدوار تستطيع الحكومات أن تقوم بها على نحو أفضل. وفي واقع الأمر، كان لقاح الإيبولا لينتج قبل سنوات لو استُعين على ذلك بقدر أكبر من التمويل العام.

وكان فشل أميركا في هذا الصدد أمراً مثيراً للانتباه بشكل خاص ــ إلى الحد الذي يجعل بعض البلدان الأفريقية تتعامل مع الزائرين القادمين من الولايات المتحدة بقدر كبير من التحفظ. ولكن هذا يعكس مشكلة أكثر جوهرية: وهي أن نظام الرعاية الصحية الخاص في الولايات المتحدة فاشل.

صحيح أن الولايات المتحدة لديها بعض من المستشفيات والجامعات البحثية والمراكز الطبية المتقدمة الرائدة على مستوى العالم، ولكن برغم أن الولايات المتحدة تنفق أكثر من حيث نصيب الفرد وكنسبة من ناتجها المحلي الإجمالي على الرعاية الطبية مقارنة بأي دولة أخرى، فإن النتائج الصحية هناك مخيبة للآمال حقا.

الواقع أن متوسط العمر المتوقع للذكر الأميركي عند الولادة هو أسوأ من نظيره في سبع عشرة دولة أخرى مرتفعة الدخل ــ فهو أقل بنحو أربع سنوات من المتوسط في سويسرا وأستراليا واليابان. وهو ثاني أسوأ متوسط بين النساء، حيث يقل بأكثر من خمس سنوات عن متوسط العمر المتوقع في اليابان.

والمقاييس الصحية الأخرى مخيبة للآمال بنفس القدر، حيث تشير البيانات إلى نتائج صحية أضعف بالنسبة للأميركيين طيلة حياتهم. ولمدة ثلاثة عقود من الزمان على الأقل، ظلت الأمور تزداد سوءاً على سوء.

إن العديد من العوامل تساهم في التأخر الصحي في أميركا، ويحمل هذا دورساً مهمة لدول أخرى أيضا. فبادئ ذي بدء، تشكل القدرة على الوصول إلى العلاج الطبي أهمية واضحة. ولأن الولايات المتحدة من بين قِلة من البلدان المتقدمة التي لا تعترف بالوصول إلى العلاج الطبي بوصفه حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، فضلاً عن اعتمادها المفرط مقارنة بدول غيرها على القطاع الخاص، فمن غير المستغرب أن يعجز العديد من الأميركيين عن الحصول على الأدوية التي يحتاجون إليها. ورغم أن قانون حماية المرضى والرعاية الميسرة (أوباما كير) نجح في تحسين الأمور، فإن تغطية التأمين الصحي تظل ضعيفة، حيث ترفض نحو نصف الولايات الأميركية الخمسين توسيع نطاق برنامج المساعدات الطبية، وهو برامج تمويل الرعاية الصحية للفقراء في أميركا.

وعلاوة على ذلك، تعاني الولايات المتحدة من واحد من أعلى معدلات فقر الطفولة بين البلدان المتقدمة (كانت هذه حقيقة مؤكدة بشكل خاص قبل أن تؤدي سياسات التقشف إلى زيادة الفقر في العديد من البلدان الأوروبية)، ومن المعروف أن الافتقار إلى التغذية السليمة والرعاية الصحية في مرحلة الطفولة يخلف تأثيرات تستمر مدى الحياة. ومن ناحية أخرى، تساهم قوانين السلاح في أميركا في ارتفاع معدلات الوفاة العنيفة إلى أعلى المستويات بين البلدان المتقدمة، كما يساهم اعتمادها على السيارات الخاصة في ارتفاع معدلات الوفيات على الطرق السريعة.

كما تشكل فجوة التفاوت الضخمة في الولايات المتحدة عاملاً بالغ الأهمية في التأخر الصحي، وخاصة عندما يقترن بالعوامل الأخرى المذكورة آنفا. فمع المزيد من الفقر، والمزيد من فقر الطفولة، وافتقار المزيد من الناس إلى القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحية والإسكان اللائق والتعليم الكافي، ومواجهة المزيد من الناس خطر انعدام الأمن الغذائي (أولئك الذين يستهلكون الأطعمة الرخيصة التي تساهم في ارتفاع معدلات البدانة)، فمن غير المستغرب أن تكون النتائج الصحية في الولايات المتحدة سيئة.

بيد أن النتائج الصحية في الولايات المتحدة هي أيضاً أسوأ من أماكن أخرى بالنسبة لهؤلاء من ذوي الدخول المرتفعة والتغطية التأمينية. ولعل هذا يرتبط أيضاً باتساع فجوة التفاوت هناك إلى مستويات أعلى من غيرها في البلدان المتقدمة. فالصحة كما نعلم ترتبط بالإجهاد. وأولئك الذين يناضلون لتسلق سلم النجاح يعرفون عواقب الفشل. وفي الولايات المتحدة تتباعد درجات السلم عن بعضها البعض أكثر من أي مكان آخر، والمسافة من القمة إلى القاع أعظم كثيرا. وهذا يعني المزيد من القلق والانزعاج والاكتئاب، وهو ما يترجم إلى صحة أسوأ.

إن الصحة الجيدة نعمة. ولكن الكيفية التي تقيم بها البلدان المختلفة هيكل النظام الصحي ومجتمعه تحدث فارقاً ضخماً من حيث النتائج. والواقع أن أميركا وبلدان أخرى في العالم تدفع ثمناً باهظاً نتيجة لاعتمادها المفرط على قوى السوق وعدم اهتمامها بالقدر الكافي بقيم أخرى أوسع وأعظم أثرا، بما في ذلك المساواة والعدالة الاجتماعية.

* حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ بجامعة كولومبيا

https://www.project-syndicate.org

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 12/تشرين الثاني/2014 - 18/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م