ألمانيا ما بعد سقوط الجدار تفضح قبح الماضي

 

شبكة النبأ: أحيت ألمانيا الذكرى الـخامسة والعشرين لسقوط جدار برلين باحتفال شعبي كبير تخليدا لهذا الحدث التاريخي الذي مهد لإعادة توحيد البلاد. وجدار برلين وكما تشير بعض المصادر كان جدارا طويلا يفصل شطري برلين الشرقي والغربي والمناطق المحيطة في ألمانيا الشرقية. الجزء الشرقي من برلين كانت سيطرة ألمانيا الشرقية, المدعومة من الاتحاد السوفييتي و الجزء الغربي كان تحت سيطرة ألمانيا الغربية المدعومة من أمريكا و فرنسا و انجلترا. بني السور في 13 أغسطس 1961, لكي يكون هناك حدود بين البلديين و لكي يتم إيقاف هجرة سكان برلين وتم تحصينه تحصين عالي و كان من المستحيل عبوره دون الحصول على موافقة . ابتدأت إعمال التكسير في السور فى يوم 9 نوفمبر من سنة 1989 الى ان انهار السور ، و توحدت مدينة برلين و من ثم توحدت ألمانيا.

وتسبّبت إعادة توحيد ألمانيا الشرقية والغربية بعد 4 عقود من التقسيم من الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وكما يقول بعض الخبراء، بحدوث في طفرة اقتصادية مهمة في هذا البلد الذي أصبح المحرك الرئيسي لاقتصاد الأوربي. وقد أجرت ألمانيا إصلاحات شاملة انتعشت ألمانيا التي أصبحت وبحسب بعض التقارير أكبر مٌصدر للسلع والمنتجات الصناعية في العالم حتى 2009.ولا زالت تعتمدُ بشكل كبير على السوق العالمية لتصدير منتجاتها، وبلغت صادراتها في 2013 نحو تريليون يورو أو بأكثر من 1.25 تريليون دولار، ما يمثلُ 50% من الناتج المحلي الإجمالي، مع تحقيق فائض كبير في الحساب الجاري.

وبحسب بعض المراقبين فان ألمانيا الموحدة وعلى الرغم مما تقدم، ربما ستواجه الكثير من المشكلات والأزمات خصوصا بعد ان صدق البرلمان الألماني على تحديد الحد الأدنى للأجور وهي خطوة انتقدها الخبراء لاحتمال هجرة الشركات بشكل كبير خارج البلاد. يضاف الى ذلك المشكلات الأخرى التي تتعلق بنمو السكان والفارق الاقتصادي بين طبقات الشعب الألماني.

فبعد توحد ألمانيا، كانت ألمانيا الشرقية أكثر فقرا، وأكثر تخلفا، مقارنة بألمانيا الغربية، ولقد ساهم الشعب الألماني بأكثر من 1200 مليار يورو من أجل إعادة بناء ألمانيا الشرقية وإعادة بناء برلين لكي يتم تقريب مستوى المعيشة بين المنطقتين، ورغم كل ذلك فإن مستوى رواتب أهالي ألمانيا الشرقية سابقا أقل من نظيره في المناطق الغربية بـ 30 في المئة، ونسبة البطالة ترتفع في مدن المناطق الشرقية بـ 25 في المئة عن نظيراتها في مدن المناطق الغربية بألمانيا. ولهذا فلا عجب أن تعلن المستشارة الألمانية أنجيلا مريكل في مناسبة الذكرى العشرين لسقوط سور برلين أن الوحدة الألمانية لم تكتمل بعد نظرا لاستمرار الفوارق في الأوضاع الاقتصادية بين شرق ألمانيا وغربها.

الألمان يرفعون شجاعة الحرية

وفي هذا الشأن احتفلت برلين بالذكرى الخامسة والعشرين لسقوط جدار برلين وتكريم اولئك الذين اسقطوا في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 1989 الدكتاتورية في المانيا الشرقية. وقد وضعت احتفالات الذكرى هذه السنة تحت شعار "شجاعة الحرية"، وخلافا للذكرى العشرين لم يدع اي رئيس دولة او حكومة حالي للمشاركة فيها بحيث أعطيت الصدارة للشعب. وبدأ الزوار يحتشدون حول منصات النبيذ او النقانق امام بوابة براندبورغ الغنية بالرموز والواقعة الى الشرق في منطقة عازلة ابان تقسم المدينة.

وينظم "عيد شعبي" كبير حيث تتقاسم المسرح اوركسترا كلاسيكية ونجوم لموسيقى الروك ومعارضون سياسيون سابقون. وقد بدأ النهار بوقع حزين مع احياء قداس في كنيسة المصالحة التي شيدت في "شريط الموت" الذي كان يفصل جانبي الجدار. ثم جرى الحفل الرسمي للحكومة الالماني الذي كان مقتضبا جدا وجمع تحت سماء ملبدة بالغيوم ووسط طقس بارد عشرات الاشخاص بدون اي مدعو اجنبي. وتناوب على الكلام ممثلون عن حركات المواطنين في تلك الاونة. كما غرست ميركل والمشاركون الاخرون في الجدار زهورا تكريما للالمان الشرقيين الذين قتلوا لدى محاولتهم الهرب من جمهورية المانيا الديمقراطية.

وقالت المستشارة الالمانية التي نشأت وترعرعت في المانيا الشرقية السابقة وبدأت مسيرتها السياسة في سياق الاحداث قبل خمس وعشرين سنة امام عدد من الصحافيين "ذلك استمر طويلا وكثيرون من الناس عاشوا في معاناة كي يكون ممكنا فتح الجدار". "ليس فقط في المانيا بل وايضا في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وفي كثير من البلدان الاخرى وفي هذا اليوم عليا ان نفكر بهم" على ما قالت.

وقالت ميركل ايضا في حفل عند نصب جدار برلين "بامكاننا تغيير الامور الى الافضل، انها رسالة سقوط الجدار" في التاسع من تشرين الثاني 1989. واضافت ميركل "انها موجهة الينا في المانيا، والى الاخرين في العالم"، و"بخاصة في هذا الوقت الى الناس في اوكرانيا وسوريا والعراق والى جميع الديانات في العالم حيث الحريات وحقوق الانسان مهددة او حتى تداس بالاقدام". وتابعت "ان سقوط الجدار اظهر ان الاحلام يمكن ان تصبح حقيقة".

وقالت ايضا "ان جدرانا اخرى يمكن ان تسقط، جدران الدكتاتورية، والعنف، والايديولوجيات والاحقاد"، وذكرت بان النظام الشيوعي في المانيا الشرقية كان "دولة اللاقانون"، "دولة كانت تراقب" مواطنيها وتنتهك "الحقوق الاساسية مثل حرية الرأي والصحافة". واعتبرت ان ذكرى سقوط جدار برلين هو "يوم للحرية" وايضا "يوم ذكرى للضحايا". كما ذكرت خصوصا بان 138 شخصا دفعوا حياتهم ثمن محاولتهم عبور الجدار بين تاريخ بنائه في 13 اب/اغسطس 1961 وسقوطه بعد 28 عاما من ذلك.

وفي الفاتيكان ذكر البابا فرنسيس في هذه المناسبة بدور سلفه حنا بولس الثاني ودعا الى بناء "جسور وليس جدرانا". وقال "قبل 25 عاما سقط جدار برلين الذي قسم لفترة طويلة المدينة الى قسمين ورمز الى التقسيم الايديولوجي لاوروبا والعالم اجمع". وتابع "ذلك السقوط اتى فجأة لكنه اصبح ممكنا بفضل التزام صعب وطويل لكم من الاشخاص الذي ناضلوا وصلوا وعانوا حتى ان بعضهم ضحوا بحياتهم. ومن بينهم البابا القديس حنا بولس الثاني الذي لعب دورا من المصاف الاول". بحسب فرانس برس.

وقال البابا "اننا بحاجة لجسور وليس لجدران" وصلى الحبر الاعظم "من اجل ان تنمو على الدوام ثقافة الالتقاء التي من شانها ان تسقط كل الجدران التي ما زالت تقسم العالم، ومن اجل الا يضطهد الابرياء مطلقا بعد اليوم والا يقتلوا احيانا بسبب معتقداتهم او ديانتهم". وفي هذا الحدث الذي سجل نهاية الحرب الباردة ومهد لاعادة توحيد المانيا واوروبا بحسب منظمة السياحة "فيزيت برلين"، يبقى ابتهاج الالمان وسعادتهم العارمة بالالتقاء في ذلك المساء بعد 28 عاما من الانفصال المؤلم الذي غالبا ما ترجم بمآس عائلية، من ابرز الصور الراسخة في ذاكرة القرن العشرين. وتجول اكثر من 100 الف من سكان برلين والسائحون بمحاذاة طريق طوله 15 كيلومترا في قلب برلين يوم السبت حيث كان السور يقف فيما ارتفعت البالونات المضاءة على الاعمدة لارتفاع 3.6 متر وهو نفس الارتفاع الذي كان عليه سور برلين. وسيتم اطلاق هذه البالونات يوم الأحد في اشارة رمزية لانهيار الحائط.

عاصمة للذاكرة الأوروبية

من جانب أخر جعلت التحولات التي شهدتها العاصمة الالمانية في القرن العشرين منها عاصمة للذاكرة الاوروبية. فعلى بعد مئات الامتار من النصب التذكاري المخصص للمحرقة التي اودت بحياة ستة ملايين يهودي، يقع المقر السابق لوزارة سلاح الجو النازي والذي يحمل اليوم اسم السياسي والاقتصادي ديتليف كارستن روهفيدير الذي اغتالته جماعة المانية متطرفة في العام 1993. وبات هذا المبنى المشيد في العام 1935 والممتد على 56 الف متر مربع مقرا لوزارة المال الالمانية، وفيه وقع اتفاق تأسيس دولة المانيا الشرقية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وبعد سقوط جدار برلين وتوحيد شطري المانيا، تحول هذا المبنى الى مقر للجهاز المكلف خصخصة املاك المانيا الشرقية. ويقول المؤرخ اتيان فرنسوا "في برلين تتشابك الذكريات في ما بينها، فبعد توحيد المانيا تحولت مبان ذات ادوار تاريخية الى مقرات ذات وظائف جديدة". ومنذ سقوط جدار برلين شهدت المدينة تحولات كبرى، وانتقلت من كونها مقسومة على نفسها الى عاصمة موحدة لواحدة من كبرى دول اوروبا.

ويقول المهندس المتخصص في تخطيط المدن جيل دوهيم الذي عمل في مجال التطوير لحساب الحكومة الاتحادية "برلين لم تعد هي نفسها". فساحة "بوتسدامر بلاتز" مثلا كانت قبل خمسة وعشرين عاما مكانا مقفرا، لكنها اليوم ساحة تعج بالحياة ترتفع فيها ابراج زجاجية ومراكز تجارية. وشهدت برلين، التي لا يزيد عدد سكانها عن 3,4 ملايين نسمة يتوزعون على مساحة توازي ثمانية مرات مساحة باريس، تغير خمسة انظمة سياسية في قرن من الزمن او اكثر بقليل، وعاشت مقطوعة الاوصال بجدار ظل يفصل شرقها عن غربها 28 عاما.

لكنها اليوم ثالث مقصد للسياح في اوروبا، بعد باريس ولندن، متقدمة على روما وبرشلونة، وهي تملك اكبر عدد من المتاحف التاريخية في القارة الاوروبية يزيد عن 170 متحفا، بحسب فرانسوا، اضافة الى المعالم التي توثق محنة اليهود في عصر النازية. ففي الحي اليهودي القديم، حيث كان يقيم البرت اينشتاين مثلا، ما زالت اللوحات الشاهدة على القوانين المعادية لليهود قائمة في مكانها، منها "يمنع على الاطفال اليهود ارتياد المدارس العامة"، و"يحظر على اليهود شراء الطعام سوى بين الساعة الرابعة والساعة الخامسة". بحسب فرانس برس.

ومن المعالم التاريخية الشاهدة على الحقبة النازية السوداء تلك التي توثق لابادة غجر الروما، والتخلص من الاشخاص المعوقين، وكذلك المثليين جنسيا. ويقول اتيان فرانسوا "وراء كل ذلك رغبة في تعزيز المساواة بين البشر وعدم تفضيل احد على آخر". وعند سقوط جدار برلين، لم يكن احد يرغب في ابقاء اثر من هذا الستار الاسمنتي الممتد على 160 كيلومتر، فلم يبق منه سوى بعض الاجزاء. وازيل ايضا كل ما له علاقة بالمانيا الشرقية، مثل القصر الجمهوري الذي كان يضم مقر "مجلس الشعب"، وقد هدم وشيد مكانه مبنى حديث يحاكي قصر عائلة هوهنتسولرن التي ظهرت في القرون الوسطى وحكمت فروع منها المانيا وبروسيا ورومانيا في مراحل مختلفة.

سلطة القرار الأوربي

الى جانب ذلك باتت سلطة القرار في اوروبا بيد المانيا وليس بروكسل او باريس او لندن، وما يعزز هذه الحالة هو الازمة المستمرة في منطقة اليورو. فبعد سقوط برلين في 1989 قالت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغرت ثاتشر مستشرفة المستقبل "لقد هزمنا الالمان مرتين وها هم يعودون"، معربة عن تخوفها من ان تؤدي اعادة توحيد المانيا الى هيمنتها في اوروبا.

ويكفي تذكر اثينا في 2012 في خضم اسوأ مراحل ازمة اليورو، للاقرار بان مخاوف ثاتشر كانت في محلها. وقد وجهت فيها انتقادات متهكمة الى المستشارة انغيلا ميركل مع صور نازية كما استقبلت بتظاهرات مناهضة لسياسة التقشف التي اعتبرت على نطاق واسع انها ناجمة عن امر من برلين. ولخص كاريل لانو مدير مركز الدراسات السياسية الاوروبية في بروكسل الوضع بقوله "قبل سقوط جدار برلين كانت المانيا على هامش اوروبا بعض الشيء. اما اليوم فهي في صلب اوروبا من وجهة نظر جغرافية واقتصادية وسياسية". وقال "باتت قلب محرك اوروبا. وخلال الازمة المالية رأينا ان برلين اصبحت المكان الاهم في اوروبا وليس بروكسل".

وفي الواقع فقد فرضت المانيا الموحدة نفسها كعملاق الاتحاد الاوروبي مع اسهامها باكثر من 27% من انتاج منطقة اليورو. ونظرا الى وزنها الاقتصادي طلبت المساعدة من المانيا اكثر من اي شريك اخر لتعويم البلدان الرازحة تحت ثقل الديون وتفادي بالتالي انهيار اوروبا. وتخوفا من غضب ناخبيها ابدت انغيلا ميركل في البداية تحفظها في استخدام اموال دافعي الضرائب لتغذية صندوق تعويم بهدف اعادة الثقة بالعملة الاوروبية الموحدة ما اكسبها لقب "السيدة لا".

لكن المستشارة تراجعت في نهاية المطاف عن موقفها واعدة بدعم المانيا لارساء واق مالي بهدف حماية الدول الاكثر ضعفا. كما تولت في الوقت نفسه رئاسة مجموعة صغيرة من الدول، خاصة من اوروبا الشمالية، لفرض رقابة مالية اكثر تشددا وتدابير تقشفية لا تحظى بالتأييد الشعبي. ورأى هانز كوندناني من المجلس الاوروبي حول العلاقات الخارجية، ومقره في برلين، انه "منذ بدء الازمة في منطقة اليورو وما تبع ذلك من جدل حول قوة المانيا في اوروبا، تظهر نتائج سقوط برلين بوجه اخر مختلف عما كان عليه اثناء الذكرى العشرين" لهذا الحدث التاريخي في العام 2009.

ولفت المحللون الى ان قوة المانيا الحالية ناتجة عن نجاحاتها الاقتصادية الاخيرة، بينما قبل بضع سنوات فقط، في مطلع الالفية الثانية، كانت البلاد توصف ب"الرجل المريض" في اوروبا. واعتبر لانو ان قوة برلين يمكن ان تكون "موقتة على الارجح" مشيرا الى "مشكلات اقتصادية طويلة الامد" في المانيا وخاصة الانخفاض الديمغرافي وضعف نسبة الولادات. واضاف هذا الخبير ايضا ان التراجع الاقتصادي الحالي في فرنسا حول الثنائي الفرنسي الالماني المعروف تقليديا بانه محرك اوروبا، الى ثنائي غير متوازن الى حد كبير.

لكن في الوقت الذي عززت فيه الازمة الاقتصادية في اوروبا دور المانيا علت اصوات عديدة لتعبر عن اسفها لتردد برلين في الاضطلاع بدور قيادي على الساحة الدولية. ففي السياسة الخارجية تعتبر المانيا خارج اوروبا كقوة مهيمنة. وعلى سبيل المثال فقد تناقشت انغيلا ميركل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ بدء الازمة الاوكرانية اكثر بكثير من اي زعيم اوروبي اخر. بحسب فرانس برس.

لكنها تواجه داخل الاتحاد الاوروبي انتقادات بسبب موقفها الخجول احيانا. ففيما كانت فرنسا احدى اوائل الدول التي نشرت طائرات للمشاركة في الضربات الموجهة الى تنظيم الدولة الاسلامية في اطار تحالف بقيادة الولايات المتحدة، حددت المانيا من جهتها التزامها بتدريب المقاتلين الاكراد على استخدام السلاح. وفي النهاية لفت كاريل لانو باسف الى "ان المانيا ترفض لعب دور مهيمن على الساحة الدولية وذلك يمنع اوروبا من القيام بذلك ان لم تكن المانيا موافقة".

توسع الهوة الاقتصادية

في السياق ذاته بعد 25 عاما على سقوط جدار برلين، ما زال الوضع على حاله في برينتسلاو التي تعد رمزا للشرخ الذي ما زال قائما بين الشرق والغرب في المانيا على الرغم من التقدم الذي تحقق. ويخرج توماس ميلخ سائق شاحنات في ال46 من العمر من مكتب التوظيف في هذه المدينة الصغيرة شمال شرق المانيا على بعد 120 كلم من برلين. وتمر برينتسلاو باوضاع صعبة لانها كبرى مدن اوكرمارك حيث اعلى نسبة بطالة في المانيا حددت ب14,7% في ايلول/سبتمبر.

وبعد ان صرف من عمله السابق في شركة نقل مقرها الى المانيا الشرقية لقاء اجر شهري صاف من 1580 يورو لاسبوع عمل من 60 ساعة، حصل ميلخ على وظيفة في مؤسسة دنماركية. وقال "ساحصل على ضعف اجري السابق للعمل نفسه. واتقاضى اجرا جيدا عندما اعمل لحساب مؤسسة مقرها المانيا الغربية". ومن الصعب مقاومة رغبة البحث عن اجور افضل، و"ثلث" اصحابه يعملون في المانيا الغربية ويجتمعون باسرهم في نهاية الاسبوع.

وقبل 25 عاما قطع هلموت كول وعودا لمواطني المانيا الشرقية في حين كان اقتصاد السوق يحل بقوة مكان التخطيط الشيوعي. ومذ ذاك دفعت المانيا الغربية "ما بين 1500 و2000 مليار يورو" لتمويل عملية اعادة التوحيد كما قال توماس لينك المحاضر في قضايا المال العام في جامعة لايبزيغ بفضل "ميثاق تضامن" مول من خلال فرض ضرائب اضافية.

وتم تعبيد الطرقات القديمة في برينتسلاو واصلاح المباني المتداعية لكن من الصعب العيش فيها كخبير برامج معلوماتية او عامل صاحب مهارة. ويركز مكتب التوظيف على مجالي "الزراعة او السياحة". ولا تزال نقاط ضعف اقتصاد المانيا الشرقية قائمة كما كشفت دراسات عدة حول الموضوع. اما المؤسسات الكبرى العالمية فظلت في المانيا الغربية ومعها الوظائف والرواتب الجيدة.

وقال مايكل بوردا خبير الاقتصاد في جامعة هامبولد في برلين "العملية لم تنته بعد ان الامر واضح". والتراجع الديموغرافي توقف، ففي 2013 سجلت المقاطعات الجديدة عمليات توافد اكبر من الرحيل. ولا تزال اسرة من المانيا الغربية تملك ايرادات اعلى بالثلث من عائلة في المانيا الشرقية. ولا تتخذ اي مؤسسة للمؤشر الرئيسي في بورصة فرانكفورت مقرا لها في المانيا الشرقية. لكن قبل 10 سنوات كان معدل البطالة في المانيا الشرقية 18,4% اي اعلى بمرتين من المانيا الغربية. والشهر الماضي كان المعدل 9,7% في المانيا الشرقية لقاء 6% في المانيا الغربية.

لكن الوضع في المانيا الشيوعية السابقة غير متناسق. ومقاطعة براندبرغ التي تضم مدينة برينتسلاو ومكلمبرغ وبرلين تحتل المراتب الاخيرة في حين تسجل مقاطعات اخرى مثل ساكس نتائج افضل. وقال مايكل بوردا الان على غرار باقي المانيا "هناك شرخ حتى بين الشرق والغرب". وجنوب المانيا الصناعي مع مقاطعتي بافاريا وبادي-فورتنبرغ يشمل ايضا مقاطعة ساكس التي لا تشبه مدنها الكبرى فيها مثل لايبزيغ ودريسدن في شىء ببرينتسلاو. بحسب فرانس برس.

وافادت معاهد اقتصادية ان عدم المساواة بين الشرق والغرب يتقلص اكثر فاكثر مقارنة مع الشرخ الكلاسيكي بين المدن الكلاسيكية والارياف والمناطق التي تواجه صعوبات لم تعد محصورة في المانيا الشرقية. وفي غلسنكيرشن (غرب) حيث تتجاوز نسبة البطالة 12% انتقد رئيس البلدية فرانك بارانوفسكي "كون السياسات لا تزال تتركز على اعادة اعمار المانيا الشرقية بعد اعادة التوحيد". ويطالب العديد من السياسيين في المانيا الغربية كما بارانوفسكي ببرنامج "لاعادة اعمار المانيا الغربية" وانهاء "الاعانات" المخصصة للمناطق الشرقية. وصرفت غلسنكيرشن 250 مليون يورو لالمانيا الشرقية باسم ميثاق التضامن.

معضلة الأجور المنخفضة

على صعيد متصل فكل يوم تتعامل ريناتيه ستارك المساعدة الاجتماعية في جمعية "كاريتاس" مع مجموعة من العمال الفقراء تم استبعادهم من "المعجزة" الاقتصادية في ألمانيا، وهي تتأسف قائلة "أصبحنا بلدا منخفض الأجور". وتستفيض هذا المرأة البالغة من العمر 55 عاما في الحديث عندما تسأل عن الموظفين الذين يعجزون عن الصمود حتى نهاية الشهر، من موزع البيتزا الذي يتقاضى 6 يورو في الساعة الواحدة إلى الصحافي المبتدأ الذي يكسب 750 يورو في الشهر. وتشرح "أزاول مهنتي منذ 21 عاما، ولم تكن الأمور على هذه الحال في البداية. ومن الواضح أن الوضع أصبح خطرا منذ السنوات الخمس أو الست الماضية".

وهي تذكر على سبيل المثال رجلا يقوم منذ أربعة أعوام بنقل البضائع في شركة تقع في برلين مقابل 3,50 يورو في الساعة الواحدة وهو يبقى في عمله لأنه لم يجد عملا أفضل على الرغم من الطلبات المتنوعة التي قدمها. وهو يتمكن من الصمود حتى نهاية الشهر بفضل المساعدات الاجتماعية، شأنه في ذلك شأن نحو ألف شخص يقصدون مكتبها. وعندما يعجز عن تسديد النفقات جميعها، يطلب المساعدة من الجمعيات الخيرية، "في حال تعطلت الغسالة مثلا أو تسلم فاتورة كهرباء قبل أوانها"، على حد قول ريناتيه ستارك.

وتلفت المساعدة الاجتماعية إلى أن ثلث المستفيدين من المساعدات لديهم وظائف بدوام كامل في بعض الأحيان، من بينهم حاملو شهادات. وغالبا ما تتباهى المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بأن بلدها يسجل نسبة بطالة هي من الأدنى في أوروبا (6,8% في آب/أغسطس). لكن هذا التدني يأتي على حساب تهميش لا مثيل له لجزء من اليد العاملة. ففي ألمانيا التي تتمتع بأقوى اقتصاد أوروبي، كان أكثر من موظف واحد من أصل خمسة موظفين (20,5%)، أي نحو سبعة ملايين شخص، يكسب 8,50 يورو في الساعة الواحدة سنة 2011، وفق معهد الأبحاث في مجال العمل التابع لجامعة دويسبورغ إيسن. وفي فرنسا مثلا، يوازي الحد الأدنى للأجور 9,50 يورو في الساعة الواحدة.

ويتزامن تدني الرواتب في البلاد مع انتشار الوظائف الهشة، من قبيل العقود المحددة الآجل والدوامات الجزئية والمهمات القصيرة . وفي العام 2012، كان 8 ملايين ألماني يعملون في هذا النوع من الوظائف، أي ضعف المعدل المسجل قبل 20 عاما، بحسب مكتب الاحصاءات الألماني "ديستاتيس". ويستند أندرياس كابيلير الاقتصادي المتخصص في ألمانيا في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى دراسة تعود الى العام 2010 ليوضح أن "ألمانيا هي في الاتحاد الأوروبي خلف المجر وبريطانيا من حيث النسبة الكبيرة للأجور المنخفضة". ويضيف أن "الفارق بين الأجور المرتفعة وتلك المنخفضة ازداد في ألمانيا بين العامين 1985 و2008 بسرعة أكبر بكثير من أي بلد آخر من بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية". بحسب فرانس برس.

وكان سكان الشق الشرقي والنساء الأكثر تأثرا بتهميش السوق الذي اتسع نطاقه مع السياسات التي اعتمدها المستشار الاشتراكي الديموقراطي غيرهارد شرودر بين عامي 2003 و 2005. وقد أقر بير شتاينبروك مرشح الحزب الاشتراكي الديموقراطي للانتخابات التشريعية بتداعيات هذه السياسة التي اعتبرت أسرع وسيلة لتخفيض البطالة المستشرية في البلاد التي كانت تطال في العام 2005 أكثر من خمسة ملايين شخص. أما ميركل المحافظة فترغب في إلزام الشركاء الاجتماعيين بالتفاوض على الحد الأدنى من الأجور وفق قطاعات السوق. وهي تعترف بأن "بعض الرواتب غير مقبولة"، لكنها ترفض تعميم راتب واحد للحد الأدنى من الأجور، باعتبار أن هذا التدبير فاقم البطالة في أوروبا.

التقدم في العمر

من جهة اخرى يعد تقدم السكان في العمر بمثابة نقطة ضعف ألمانيا التي تشهد معدل خصوبة هو من الأدنى في العالم ومتوسط عمر هو من الأكثر ارتفاعا. وألمانيا هي البلد الذي يضم أكبر نسبة من السكان في أوروبا مع 80,5 مليون نسمة وهي الاقتصاد الأول على الصعيد الأوروبي، لكن من المتوقع أن يخسر البلد هذين اللقبين بحلول منتصف القرن. ففي عام 2060، قد ينخفض عدد السكان في ألمانيا إلى نحو 70 مليون نسمة، بحسب مكتب الاحصاءات "ديستاتيس"، لتصبح البلاد خلف بريطانيا وفرنسا اللتين تقدمتا عليها أصلا منذ بضع سنوات من حيث عدد الولادات.

وبات اليوم متوسط العمر في ألمانيا يناهز الثالثة والأربعين، ويتوقع أن يرتفع إلى السابعة والأربعين في عام 2030. ويعزى ذلك إلى انخفاض مستوى الخصوبة في أوساط الألمان إلى نحو 1,36 طفل للمرأة الواحدة، ما يضع البلاد في مؤخرة الدول الصناعية على هذا الصعيد منذ حوالى 40 عاما. وشرح ستيفان سيفرت المتخصص لدى معهد برلين للسكان والتنمية أن "حكومة ألمانيا الغربية لم تبذل طوال عقود أي مجهود لحث العائلات على الأنجاب، كردة فعل على سياسات الرايخ الثالث".

وابتداء من السبعينيات، أصبح المزيد من النساء المثقفات في ألمانيا الغربية يتخلين عن فكرة إنجاب الأطفال لتكريس الوقت لمسيرتهن المهنية. وتضاف حواجز ثقاقية إلى نقص البنى التحتية المخصصة للأطفال، من قبيل دور الحضانة. فمن غير المستحب في ألمانيا أن تولي المرأة عناية أطفالها لآخرين كي تزاول مهنتها. أما ألمانيا الشرقية، فهي كانت تسجل معدلات خصوبة أفضل بقليل تتراوح بين 1,7 و1,8 طفل للمرأة الواحدة في عهد النظام الشيوعي الذي كان يشجع الولادات من خلال دعم العائلات وتخصيص دور حضانة للأطفال.

لكن بعد سقوط جدار برلين، تراجعت نسبة الولادات تراجعا شديدا وبات معدل الخصوبة يساوي تقريبا ذلك المسجل في الشق الغربي من البلاد. ومنذ حوالى عشر سنوات، تسعى الحكومة إلى زيادة نسبة الولادات بواسطة سلسلة من التدابير، من قبيل تقديم عطلة للأهل مدتها سنة كاملة يدفع خلالها 66% من الراتب وضمان حل لحضانة الأطفال (مثل دور الحضانة أو المربيات) ابتداء من سنتهم الأولى.

لكن هذه التدابير لم تؤت بثمارها. فهي، في الأحوال جميعها، أتت في وقت متأخر لتوقف الانخفاض السريع في اليد العاملة وازدياد عدد الكبار في السن اللذين قد يؤثرا سلبا على التوازنات الاقتصادية. ولفت ستيفان سيفرت إلى أن "معدل عمر اليد العاملة يتراوح اليوم بين 45 و 49 عاما وهو سيرتفع في عام 2020 إلى ما بين 55 و 59 عاما ليتراوح في عام 2030 بين 60 و 64 عاما". بحسب فرانس برس.

وبات ينبغي على الألمان أن يعملوا حتى سن أكبر، وقد تم تأخير سن التقاعد حتى السابعة والستين. وبغية التعويض عن انخفاض عدد اليد العاملة، فتحت ألمانيا أبوابها للمهاجرين. وقد ازداد عدد السكان في عام 2012 بنسبة 0,2% بفضل وفود المهاجرين. وفي ظل الأزمة، باتت البلاد مقصدا لشباب أوروبا الجنوبية، لكن السلطات تسعى أيضا إلى تسهيل هجرة العمال الكفوئين من قارات أخرى.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/تشرين الثاني/2014 - 17/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م