خطت السياسة التركية الخارجية خلال الأيام الفائتة، خطوتين إلى
الوراء، بعد أن بلغت "حافة الهاوية" أو كادت... الأولى على جبهة كوباني
– عين العرب، عندما أعلنت أنقرة بأنها سمحت بمرور مقاتلين من البشمرجة
العراقية إلى عين العرب عبر أراضيها، مع أسلحتهم وعتادهم... والثانية،
بعيداً عن حدودها الجنوبية الملتهبة، إلى الجبهة الليبية المشتعلة،
عندما أوفدت نائب رئيس الحكومة أمر الله إشلر إلى ليبيا، ليجدد اعتراف
بلاده بالبرلمان المنتخب وحكومة عبد الله الثني المنبثقة.
على جبهة عبن العرب – كوباني، أثار الصلف التركي في رفض إمداد
الأكراد بالمساعدات غضب المجتمع الدولي واستنكاره، حتى أقرب حلفاء
أنقرة على الساحة التركية، سعوا في تمييز مواقفهم عن مواقف أنقرة...
فرنسا نأت بنفسها عن الموقف التركي المتعنت حيال الأكراد وكذلك فعلت
بريطانيا، فيما تجادل واشنطن بأن الإحجام عن تقديم الدعم للأكراد، هو
موقف "غير مسؤول" و"لا أخلاقي"، حتى أن الإدارة الأمريكية رفضت أن يؤخذ
أكراد سوريا بجريرة حزب العمال الكردستاني التركي، وميزت بين الاتحاد
الديمقراطي الكردي من جهة والحزب المحظور في تركيا في من جهة ثانية،
وقالت أن الأول ليس مدرجاً على لوائح الإرهاب... عند هذا الحد، كان لا
بد لتركيا أن تتخطى عناد رئيسها، وأن تنحني قليلاً أمام هبوب الريح
الدولية العاتية، وهذا ما فعلته حين أبرمت تسوية مع واشنطن بهذا الصدد،
سيما وأن أنباء الاتصالات بين واشنطن والاتحاد الديمقراطي وصلت إلى
مسامع أنقرة، كما أن دوائر التحالف الدولي، تبشر بقرب ضم أكراد سوريا
إلى صفوفه.
على أية حال، ما زالت هناك خلافات كبيرة بين التحالف وتركيا حول
الموقف من المسألة الكردية عموماً، فضلاً عن شروط أنقرة الأربعة
للانضمام إلى صفوفه، والعلاقة التركية مع "داعش" التي تثير شكوك الغرب
وتستدعي انتقادات وضغوطات واسعة، تسعى أنقرة في احتوائها من خلال تقديم
تنازلات "تكتيكية" في مضمونها، ومتأخرة في توقيتها.
في الملف الثاني، وبعد أن فجرت تصريحات أردوغان في سبتمبر/أيلول
الفائت، أزمة مع البرلمان الليبي المنتخب وحكومة الدكتور عبد الله
الثني، ما استوجب استدعاء السفير الليبي من أنقرة، رداً على تلك
التصريحات التي شككت في شرعية المجلس والحكومة، من خلال التشكيك في
اتخاذ "طبرق" مقراً لاجتماعاتهما، وهو أمر رأى فيه ليبيون كثر، تعبيراً
عن انحياز تركيا للإخوان المسلمين و"أنصار الشريعة" الذين يقاتلون
الحكومة وجيشها ولا يعترفون ببرلمانها المنتخب، بخلاف الأمم المتحدة
والجامعة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وعشرات الدول والمجاميع
الدولية الأخرى.
إشلر حمل رسالة واضحة إلى "طبرق" فيها تجديد للاعتراف بشرعية
الحكومة والبرلمان، وإعلان خصومها "خارجين عن الشرعية" ودعوتهم لإلقاء
السلاح ونبذ العنف والالتحاق بالبرلمان والحكومة الشرعيين... هنا يمكن
القول، أننا أمام أوضح انقلاب تركي على إخوان ليبيا، الذين طالما
دعمتهم من ضمن منظور تحالفي استراتيجي مع كل من قطر وجماعة الإخوان
المسلمين في المنطقة عموماً.
قبل ذلك، كانت أنباء تحدثت عن احتمال إقدام أنقرة على الطلب من بعض
قادة الإخوان اللاجئين على أرضها، تجميد أنشطتهم أو مغادرة البلاد، في
مسعى لاحتواء التدهور في علاقات تركيا مع الدول العربية الفاعلة، من
مصر إلى السعودية، مروراً بمروحة واسعة من الدول والعواصم.
لا شك أن "عزلة" تركيا، ووصولها إلى وضعية "صفر أصدقاء" في الإقليم،
هي في خلفية هذه التراجعات التكتيكية، التي تقدم عليها مكرهة، وتحت ضغط
المجتمع الدولي، وبإلحاح مصالحها الضاغطة في ليبيا، حيث تتطلع تركيا
للقيام بدور نشط في مشاريع إعادة إعمار ليبيا وقطاع النفط والطاقة
والبنى التحتية، ما قد يوفر مليارات الدولارات للشركات التركية، التي
تستحق معها، التضحية بحليف إيديولوجي صغير كإخوان ليبيا.
لا ندري إن كانت هذه التراجعات ستشكل بداية لمزيد منها، وفي ساحات
أخرى، أم أن أنقرة ستتوقف عند هذا الحد، لكن من العبث القفز عن هذين
المؤشرين، واعتبارهما عديمي الأهمية... سيما وأنهما يمسان عصبين حساسين
في حسابات أنقرة: المسألة الكردية والتحالف مع الإخوان المسلمين.
تركيا بين رقمين ومرحلتين
مُنيت أنقرة بنكسة دبلوماسية كبيرة ومفاجئة، عندما أخفقت في الحصول
على معقد في مجلس الأمن الدولي، النكسة لم تتجل فقط في عدم الوصول إلى
أعلى قمة المنتظم الدولي فحسب، بل وفي العدد المتواضع من الأصوات الذي
تحصلت عليه الدولة الإقليمية الكبرى، صاحبة الطموحات الزعاماتية في
الإقليم، إذ لم تحصل على أكثر من ستين صوتاً، في حين فازت اسبانيا
بالمقعد بأكثر من ضعف هذه الأصوات 132 صوتا، وفنزويلا بثلاثة أضعافها:
181 صوتاً.
آخر مرة احتلت فيها تركيا مقعداً في المجلس المذكور، كانت عامي 2009
– 2010، يومها حصلت أنقرة على 151 صوتاً، ويومها كان "الأنموذج التركي"
في ذروة صعوده وتألقه، داخلياً بالطفرة الاقتصادية المصحوبة باقتراب
غير مسبوق من "معايير كوبنهاجن" لعضوية الاتحاد الأوروبي، وخارجياً
بسياسة "صفر مشاكل" و"القوة الناعمة" والانفتاح على مختلف العواصم
والقارات، وإحصاءات أحمد داود أوغلو عن أعداد سفراته لكل عاصمة من
عواصم المنطقة، وعشرات ألوف الأميال التي يقطعها شهراً بعد آخر، لتوسيع
شبكة علاقات بلاده مع العالم.
اليوم تبدو الصورة مغايرة تماماً، فالعالم أدرك حجم التغيير الذي
طرأ على السياستين الداخلية والخارجية التركيتين، وقرر المجتمع الدولي
في نيويورك على ما يبدو، "حجب الثقة" عن أنقرة، التي قامرت بنموذجها
الخاص، وانخرطت في سياسات المنطقة من أسوأ بواباتها: مصادرة الحريات،
ضرب استقلالية القضاء، ملاحقة الإعلام والإعلاميين، الانخراط في مشاريع
"أسلمة الدولة والمجتمع"، خطاب مذهبي قسّم تركيا والإقليم وفقا لخطوط
المذاهب والطوائف، عودة الحرب الأهلية بعد ازدهار العملية السياسية مع
الأكراد، إجماع دولي على اتهام أنقرة بدعم "داعش" وتباين حول أشكال هذا
الدعم وحدوده وأهدافه، خطاب عُصابي متشنج، يطفح بكثير من الاستعلائية
والمكابرة والعناد... مواقف من الأزمات في سوريا والعراق ومصر نجحت في
تجنيد مروحة واسعة من الخصوم بدل تصفير قائمة الأعداء.
إن كان ثمة من دلالة لنتائج المعركة على معقد في مجلس الأمن، فهي أن
تركيا لم تعد تلك "التجربة" التي يممنا وجوهنا شطرها ذات يوم لتعلم
دروسها وخبراتها... القطار التركي خرج عن سكته وضل طريقه، والعد العكسي
لتجربة "العدالة والتنمية" بدأ مع اندلاع شرارات الربيع العربي، الذي
رأت فيه أنقرة، سانحة لتعزيز زعامتها على المنطقة، حتى وإن كانت الطريق
إلى ذلك، تمر عبر "تحالف استراتيجي" مع فريق أو فصيل، في مواجهة بقية
المكونات، وحتى إن كان إشهار "الهوية المذهبية" هو الوسيلة للعب على
وتر الأغلبية الشعبوية في الإقليم.
لطالما هاجمت أنقرة منتقديها على ألسنة كثير من الناطقين باسم الحزب
الحاكم... كل من ينتقد السياسة التركية، هو إما "بوق لنظام الأسد" أو
عميل للمالكي، أو "قومجي" عربي، لا يكن وداً لتركيا... كاتب هذه السطور
اتهم بـ "القومجية"، لكأن المطلوب من المثقف العربي أن يكون "طورانياً"
تركياً حتى ترضى عنه الدوائر التركية... علماً بأننا كنّا من أول من
رحب بالتقارب التركي – السوري والتركي العراقي، وبتجربة حزب العدالة
والتنمية، وأول من استضاف قادته ومفكريه إلى منتديات فكرية في المنطقة،
وبعيد وصوله بأشهر للسلطة، كما كنّا من بين من شجع إسلاميي المنطقة
والعالم العربي، إلى التدقيق والتعلم من "دروس التجربة التركية"،
ونظمنا لهذا الغرض العديد من الأنشطة في كل من عمان وبيروت والقاهرة
وأنقرة وإسطنبول.
نتائج التصويت على عضوية تركيا في مجلس الأمن، يجب أن تقرأها أنقرة
على أنها تصويت عالمي على التبدل الذي طرأ على سياسات حزب العدالة
والتنمية الحاكم خلال السنوات الأربع الفائتة، لا بوصفها مؤامرة على
تركيا، كما قد يحلو للرئيس رجب طيب أردوغان أن يفسر كل ما تواجه بلاده،
من تحديات وانتقادات... نتائج هذا التصويت، تعكس تراجع مكانة في
الإقليم وعلى الساحة الدولية، والناجمة عن خروج تركيا عن قواعد
سياستيها الداخلية والخارجية التي صاحبت صعود الحزب وزعامته الكارزمية،
التي قلنا فيها أكثر من مرة، أنها باتت عبئاً على تركيا بدل أن تكون
ذخراً لها.
ولا يجب أن يخطأ أحدٌ في تفسير فوز الحزب وزعامته في الانتخابات
المتعاقبة على أنها دليل على صحة سياساته ومواقفه، جميع مواقفه
وسياساته، ربما يكون النجاح الاقتصادي هو سبب مهم لهذا الفوز المتكرر،
لكنه فوز مصحوب بتفاقم حالة الاستقطاب داخل البلاد، وانتعاش الهويات
الثانوية على حساب الهوية القومية الجامعية، وتفاقم المسألة الكردية
وعودة الحرب الساخنة بين الأتراك والأكراد على خلفية ما يجري في سوريا
والعراق، و"الصحوة العلوية"... وليس المهم أن يأتي الحزب أو الزعيم
بنصف أو حتى ثلثي الأصوات الناخبة... فالأهم، ألا يشعر النصف الآخر أو
الثلث الآخر من المجتمع، بأن من وصل إلى السلطة، هو عدوٌ لهم، المهم ان
تنتهي الانقسامات السياسية الانتخابية عند لحظة إعلان النتائج، لا أن
تتحول إلى انقسامات مذهبية وقومية مستدامة، قد تعصف بالهوية والدولة
والكيان.
والمؤسف أنه في الوقت في الذي يكشف فيه كثير من المفكرين والمثقفين
الأتراك، عن إدراك عميق لما تواجهه تركيا منذ أربع سنوات، إلا أن حالة
الاستقطاب التي تعيشها البلاد، تحد من تأثير أفكار هؤلاء وملاحظاتهم،
وسط قناعة متزايدة، بأنه لا فرصة حقيقية لإجراء مراجعات للتجربة
والسياسات في ظل هيمنة رجب طيب أردوغان على مقاليد الحزب والزعامة
والرئاسة والحكومة، فالرجل بطبيعته الشخصية، ليس من النوع الذي يعترف
بالخطأ أو يتحلى بكثير من المرونة، ما يعني أن تركيا ستعاني حتى إشعار
آخر، من النتائج الضارة للسلطوية الجديدة، وحكم الفرد الذي أكل الحزب
وحلّ محله.
***************
ملاحظة: بعد نشر مقال "تركيا بين رقمين ومرحلتين" قبل خمسة أيام،
أخبرني مصدر في الأمم المتحدة بأن تركيا أحجمت قبل عدة أشهر، عن حجب
الثقة على ترشيح إسرائيل لعضوية "نائب رئيس لجنة تصفية الاستعمار في
الأمم المتحدة" ضمن المجموعة الغربية، بل أنها رفضت اقتراحاً بمنافسة
إسرائيل على هذا الموقع، رغم ارتفاع فرص فوزها بالمقعد بدلا عن دولة
الاحتلال الوحيد المتبقي في القرن الحادي والعشرين في العالم... تركيا
راهنت في المقابل على دعم المجموعة لترشيحها لعضوية مجلس الأمن، إلا أن
رهانها خاب، ولم تحظ بدعم إلا 60 دولة فقط... المصدر قال: أن ثمة حالة
من الغطرسة في الحسابات التركية، فلم يسبق لدولة في العالم أن ترشحت
ثانية لعضوية مجلس الأمن، ولمّا تمضي سوى أربع سنوات فقط على انتهاء
عضويتها في المجلس، هذا سبب آخر لعب دوراً في فشل الدبلوماسية التركية
في الأمم المتحدة.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |