قضيت ردحاً من الوقت لمعرفة المقصود بـ "القتل تعزيراً" أو "التعزير
بالقتل"، فوجدت أن المقصود بـ "التعزير" هو الردع، ومنع المتهم أو
الجاني من تكرار فعلته، أما في حالة القتل أو الإعدام تعزيراً، فإن
الغرض "التربوي" من العقوبة يكون قد سقط، فالمستهدف بها يكون قد قضى
إلى جوار ربه، اللهم إلا إذا المقصود، جعله عبرة لمن اعتبر.
مناسبة هذه الانشغالات الطارئة، في قضية فقهية اجتهادية، لا مطرح
لها في عالم مزدحم بالأحداث والتحديات، محاولة فهم قرار محكمة سعودية
على آية الله الشيخ نمر النمر، أحد أكبر المرجعيات الشيعية في المملكة،
حيث قضت المحكمة عدم الأخذ بطلب المدعي العام إقامة "حد الحرابة" على
الشيخ المعتقل، واستبداله بـ "الإعدام تعزيراً".
والحقيقة أننا في مفتتح القرن الحادي والعشرين، نجد صعوبة حتى في
فهم هذه "المصطلحات"، فنحن أبناء أجيال متعاقبة، استيقظت على أحكام
القضاء التي تراوح ما بين البراءة وعدم المسؤولية والغرامة والسجن
والإعدام... ونشكر الله أن أحكام الإعدام في الأردن لا تنفذ في غالبية
الأحوال، فالعالم بدأ يضيق ذرعاً بهذه العقوبة، وثمة تيار عالمي مناهض
لها، وهناك عشرات الدول أسقطتها من "لائحة العقوبات" المعتمدة لديها...
أما أحكام "الحرابة" و"التعزير" و"الجلد" وتقطيع الرؤوس والأطراف
والرجم بالحجارة، فلم يذع صيتها من جديد، إلا مع نشؤ دولة البغدادي
الإسلامية.
لا ندري إن كان الحكم سيطبق بحق النمر أم أنه سيحظى بعفو ملكي أو
تخفيف عقوبة في حال الاستئناف، إذا كان هناك من استئناف... لكننا نعرف
أن الرجل استقبل الحكم برباطة جأش، وأن شقيقه قد التحق به في سجنه كذلك،
والأرجح بتهم شبيهة، ما يهمنا أن هذا الحكم ستكون له تداعيات على
محورين: الأول؛ علاقات السعودية بإيران وأبناء الطائفة الشيعية في
العالم، حيث للرجل مكانة علمية ودينية متميزة... والثاني؛ علاقة
المكونات السعودية مع بعضها البعض، فللرجل أتباع ومريدين كثير في أوساط
السعوديين الشيعة، التي أظهرت تطورات وأحداث السنوات الفائتة، أن
علاقاتهم بالدولة والمؤسسة الدينية، يشوبها قدر من الاختلال والاهتزاز.
مشكلة الحكم الذي أصدرته المحكمة السعودية، ليست في فرادته أو
غرابته... فالمحاكم هناك تطبق ما يُعتقد أنه "أحكام وحدود شرعية" منذ
قيام المملكة، وهي وإن كانت مثيرة للخلاف والنقاش، وتستجلب الكثير من
انتقادات المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية، إلا أنها هذه المرة،
تأتي في ظرف إقليمي مغاير... فحكم كهذا، يعيد إلى الأذهان مباشرة، ما
تقوم به "داعش" و"النصرة"، حيث تجري على قدم وساق عمليات الجلد والرجم
وتقطيع الأطراف والرؤوس، في محاكم يُقال أنها أسست على "الشريعة"، وهي
أحاكم تثير استياء المسلمين وغضبهم، قبل أن تستولد موجة انتقادات دولية
واسعة... وأي ربط بين ما تقوم به هذه القوى في سوريا والعراق، وما يجري
في أي دولة عربية أخرى، هو بالتأكيد، ليس في مصلحة هذه الدولة، وهذا
أولاً.
أما ثانياً؛ فإن حكماً كهذا، يأتي في لحظة إقليمية بالغة الحساسية
والدقة والتعقيد... ومن الحكمة تفادي صب مزيد من الزيت على نار "حرب
الهويات" المشتعلة داخل كل دولة ومجتمع وعلى مستوى الإقليم... ولا يظنن
أحدٌ، أن حكماً كهذا، خصوصاً في حال تنفيذه، سيمر من دون أثر بالغ
السوء، على "وحدة المجتمع وتماسكه"، وعلى العلاقة بين دول الإقليم
ومعسكراته المتناحرة.
لذا نرى في الحكم، مناسبة للتذكير بضرورة فتح باب الاجتهاد في
الإسلام، وهو الباب المغلق لدى المسلمين السنة، منذ قرون عديدة...
والاجتهاد يمكن ان يشمل "لائحة العقوبات" كذلك، فجرائم العصر الحديث،
من حيث أشكالها وأدواتها وظروف اقترافها وملابساتها، واستتباعاً
الأحكام الصادرة بشأنها، باتت شديدة التعقيد والحساسية، والمؤكد أنها
لم تعد من النوع الذي يمكن "حشره" في لائحة ضيقة من العقوبات، أقرت
والاجتماع البشري ما زال في أطواره الأولى.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |