شبكة النبأ: من أخطر ما تواجهه الأمة،
أية أمة، عندما ينشغل قادتها بالتوافه، ويتركون الاشتغال في الأهم من
أمور الناس، وإدارة شؤون الامة، وهذا يحدث حينما تكون شخصية القائد
متسرعة، ومتلهفة لحصد النتائج الآنية، وتحدث ايضا عندما لا يتحلى قادة
الامة برؤية واضحة، وآفاق بعيدة، وبصائر ثاقبة، فيترقبون نتائج الآني،
ويهملون قطاف الثمار عندما تنضج بعد حين، فالعجالة في التخطيط
والتنفيذ، غالبا ما يكون مصدرها قادة متسرعون، يفضلون قطف الثمار
(المنافع والمكاسب) قبل نضوجها، ويعيرون اهتماما اكبر للصغائر بدلا من
الكبائر!!.
في هذا المجال، يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد
الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (ممارسة
التغيير) ما نصه: (إن الكبائر إذا صلحت، صلحت الصغائر تلقائياً). وهذا
يعطي أولية للاشتغال على اصلاح الأهم والأكبر والأوسع، بدلا من
الاشتغال والانشغال بالفروع والجزئيات، وهذا أمر مشت عليه الأمم
والمجتمعات المتقدمة، وسار عليه قادة خالدون، عُرفوا بقوة البصيرة،
والأناة، والقدرة على التحليل، والنظر الى ما هو ابعد من المرئي الآني
والمكشوف.
إن قادة الامة الناجحون، هم أولئك الذين ينخرطون في استقراء
المستقبل، ومعرفة الخفايا الخطيرة التي قد تواجهها الامة، حتى لا تشكل
صدمة او مفاجأة لهم، يحصل هذا عندما يعي القادة أهمية اصلاح الأكبر،
لأن الادنى كما يقول الامام الشيرازي، سيتم اصلاحه تلقائيا، ولكن عندما
يحدث العكس، وينصرف ساسة الامة وقادتها، الى الآني المرئي والملموس،
لاسيما اذا كان فرعا مما هو أكبر وأهم، فإن النتائج ستدل على منفعة
آنية متسرعة، مقابل الاهدار الأكيد لفرص الاصلاح الكبرى.
وتشير تجارب التاريخ الاسلامي المدوّنة، الى قادة لم يكن دأبهم
الاشتغال على ما هو اكبر وأعمق وأهم، وأبعد استراتيجيا، بل شغلتهم
الصغائر بسبب سرعة الحصول على منافعها، وبذلك تم إهدار فرص التقدم
الكبيرة والكثيرة التي كانت على مرمى حجر، او قاب قوسين من المسلمين،
لكي يستثمروا تلك الفرص الاصلاحية الكبرى، وحتى يبقى المسلمون ممسكين
بدفة القيادة، يحثّون الخطى على طريق السلام والوئام العالمي، بدلا من
البقاء متأخرين في أسفل قائمة الامم التي تسكن المعمورة، كما تؤكد لنا
الوقائع الراهنة.
لا للإصلاحات السطحية
لذلك يؤكد الامام الشيرازي في كتابه (ممارسة التغيير)، على قضية
جوهرية، تطالب المسؤولين بعدم الانشغال بالأمور السطحية، وعدم الاشتغال
على الاصلاحات الصغرى، لسبب بسيط و واضح، هو أن انشغالهم بالسطحي
الصغير التافه، سوف يمنعهم من الوصول الى اهدافهم الكبرى.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله العميق حول هذا الامر، عندما
يؤكد الامام قائلا: (من الضروري على القائمين بالتغيير أن لا ينشغلوا
بالأمور الجانبية التافهة، والإصلاحات السطحية البسيطة، فإن الاشتغال
بالجانبيات والتوافه يمنعهم عن الوصول إلى أهدافهم). وثمة سبب آخر ايضا
يعيق تحقيق الاهداف الكبرى عندما يشتغل القادة على التوافه، إذ لا يمكن
للانسان أن يجمع الاشتغال بالجانبين (الأهم والأصغر) في وقت واحد، مهما
أوتيَ من قدرة وعزم وذكاء.
كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي عن هذا الامر، عندما يؤكد
الامام قائلا: (ليس للإنسان قدرتان - مهما كان ذلك الإنسان عظيماً –
فهو لا يمتلك قدرة الإصلاح الجانبي، وقدرة الإصلاح الكبير في وقت واحد،
ولذا نجد في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله، الاهتمام بالإصلاح
الأساسي أكثر من الاهتمام بالإصلاح الجانبي).
وعندما يقدّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الاصلاح الكبير، على
الاصلاح الجانبي، فإن هذا الامر يدل بصورة لا تقبل الشك، على وجوب
اهتمام القادة بإلإصلاح الأكبر، وترك الاصلاح الاصغر، لأن ذلك سوف
يتحقق كمحصّلة أكيدة للاصلاح الأكبر.
وتكشف لنا التجارب السياسية لبعض الحركات الاسلامية، أنها بسبب
انشغالها بالسطحي، أكثر من انشغالها بالأعمق والابعد والأهم، واجهت
الفشل الأكيد، لأنها لم تكن تعي أن الاهتمام بالصغائر، سوف يقودها الى
فشل تلو آخر، وقد أثبتت لنا الوقائع السياسية، فضلا عن التجارب
الماضية، دقة هذا التحليل، ولعل الفشل الذي منيَتْ به بعض الحركات
الاسلامية، يؤكد بصورة قاطعة، أفضلية الاهتمام بالأكبر والاهم.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله الواضح عن هذا الامر، عندما
يؤكد الامام في كتابه نفسه، على: (أن السرّ في فشل بعض الحركات
الإسلامية أنها ظلت تهتم بالصغائر مثل اهتمامها بالكبائر، ولكن في
حقيقة الامر، إذا صلحت الكبائر، صلحت الصغائر تلقائياً). وهذا بالضبط
ما تؤكده الوقائع كما ذكرنا، ومع ذلك لا يزال هناك بعض القادة من لا
يتعظ، ولا يجد أهمية في ذلك، بسبب إشتغاله المتسرع في قطف المنافع
والمكاسب الآنية.
ما بين الجاهل والعالِم
وعندما يصر القادة والرؤساء والمسؤولون، على الاهتمام بالصغائر بدلا
مما هو أهم وأكبر، فإن هذا الامر يدل - بما لا يقبل الشك - على جهل
هؤلاء وتبجحهم بما يسيء لهم ولمستقبلهم، فضلا عن جهلهم بما هو أفضل لهم
ولأمتهم، و شعوبهم ودولهم، وهذا هو الفرق الكبير والواضح بين الجاهل
والعالِم، فمن يجهل الامور سوف يتسرّع في قطف النتائج والمنافع، حتى لو
كانت في غير صالحه مستقبلا، أما من يكون عالما بما يعمله، فهو يقيس
الامور والنتائج بمقياسها الصحيح، لذلك لا خوف عليه من الفشل.
من هنا يركّز الامام الشيرازي في كتابه المذكور على: (أن الجاهل
يعمل العمل الحقير أو المنحرف متبجحاً، بينما إذا كان عالماً فإنه يخجل
من ذلك العمل، كما يلاحظ الإنسان ذلك في أعماله التي عملها في حال
جهله، ويقيسها بأعماله التي ينبغي أن يعملها في حال تقدمه بالعلم
والفهم).
وهكذا يبدو لنا الفارق كبيرا بين الاثنين، علما أن القادة الفاشلين
في هذا الجانب، أي في جانب التأني والاشتغال على الاصلاح الأكبر، فإنهم
سوف يعكسون هذا الفشل على مجتمعاتهم ايضا، فيصبح المجتمع برمته جاهلا
متخلفا، لأن القائد غالبا ما يكون نموذجا لشعبه وامته، وعندما يكون
فاشلا متسرعا منشغلا بحصد المنافع الآنية على حساب الاستراتيجية، فلا
ريب أن هذا الامر سوف ينعكس على الجميع، فتكون الحصيلة، قائدا فاشلا
يقود مجتمعا متخلفا.
لذلك يحذّر الامام الشيرازي في كتابه نفسه، من: (أن الانشغال
بالتوافه يعد من سمات المجتمع الجاهل المتخلف، مما يسبب اشتغال الناس
بالتوافه المخجلة أحياناً بدلا من الاشتغال بعظائم الأمور). ومن
البديهي في حالة كهذه، أن يكون المجتمع منشغلا بالتوافه والامور
السطحية، لذلك لابد من إعطاء الأولية للاصلاح الاكبر، والاشتغال على
الأهم والاوسع والأبعد، وهذا ما ينبغي أن يتنبّه عليه القادة والرؤساء
والمسؤولون كافة، من اجل الارتقاء بأمة المسلمين الى الدرجة التي
تتناسب وعمق الاسلام، وتاريخ قادته العظام. |