الفرد ومفهوم الحرية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كل عيد تكون في حيرة لا تجد لها حلا خاصة اذا كان لديك اطفال يريدون الخروج وارتكاب الفرح في العيد.

حيرتك هي اين تتوجه؟  فلا حدائق ولا ملاهي اطفال او مدن العاب، تستطيع الذهاب اليها دون صداع او ارتفاع في ضغط الدم او السكر.. هذه المرة خدمني الحظ، حين توجهت الى المتنزه الوحيد في المدينة، لم يكن مزدحما هذا العيد، فقد سبقته اجراءات امنية مشددة، ومنها قطع الطرق ومنع حركة السيارات، مما قلل من اعداد القادمين الى هذا المتنزه.

ارضية ما تفترضه التسمية يجب ان تكون خضراء، الا انها جرداء قاحلة يسف بها التراب ويتطاير مع وقع الاقدام على الارض.

كان ابني الصغير فرحا بتلك الالعاب التي اختفت اصباغها واصبحت كالحة ينقبض القلب لرؤيتها، القائمون على تلك الالعاب وتنظيم الدخول عليها، لم يسمعوا عن شيء اسمه الابتسامة، رغم قلة المرتادين فالتدافع على اشده، والاطفال المتنمرين كثيرون مع ابائهم او لوحدهم، هل الصورة قاتمة لهذه الدرجة؟.

يقال عني اني كثيرا ما ارتدي القبعة السوداء، ولا ارى ايجابية في الكثير من الامور والقضايا. وهي واحدة من ست قبعات للتفكير اصدر ادوارد دي بونو كتابا عنها حمل عنوان (قبعات التفكير الست) وهي البيضاء وترمز الى الحياد والموضوعية، والحمراء وترمز الى وجهات النظر العاطفية غير المبررة، والصفراء التي تمنح الامال والتفكير في الايجابيات، والخضراء التي تشير الى الابداع والافكار الجديدة المبتكرة، والزرقاء المعنية بالسيطرة والتنظيم لادوار القبعات الاخرى، والسوداء التي تغطي النواحي السلبية.

في الوقت الذي كان طفلي الصغير فرحا بتلك الالعاب، سمحت لنفسي ان اراقب حركات الاطفال الاخرين وحدهم او مع ذويهم، واسمع كلمات الزجر والتانيب او اشاهد حركات الايدي الغاضبة للاباء والامهات، وكنت اطرح على نفسي السؤال التالي: هل يؤثر تصورنا على حياة الفرد في مفهومنا للحرية؟.

اترك الاجابة عن هذا السؤال الان، واذهب الى (مروان) وهو واحد من بين سبعين طفلا تم الإفراج عنهم من قِبَل داعش في الأيام القليلة الماضية.

وكان قد اختطف مع اكثر من مئة وأربعين من صبية المدارس الأكراد السوريين منذ أربعة أشهر، في طريق عودتهم من المدرسة، يقول مروان في شهادته لمراسلة ال (cnn) انه ومجوعة الاطفال المختطفة كان يتم ترسيخ الاسلام فيهم على الطريقة الداعشية، واجبرونا على رؤية افلام الجلد والذبح وتقطيع الاطراف للمخالفين لهم، ولدى سؤاله عن رايه في تلك الجماعة، يجيب المراسلة جوابا صادما لها ولشقيقته التي حضرت اللقاء، يقول: انهم على حق. فهم لم يفعلوا شيئا سيئا، تقول اخته: انه مجرد طفل، سيكون من غير الطبيعي الا يتاثر بعد اربعة شهور قضاها في الحجز. تتساءل المراسلة في ختام تقريرها: هل هو مروان نفسه الذي نعرفه من قبل؟.

اضيف مشهدا اخر من مشاهد حياتنا، ولشدة روتينيته اصبح اكثر من عادي ومالوف لايثير الانتباه الى معانيه الدفينة والمترسخة، والتي لا يمكن النظر اليها حين نخلع قبعتنا السوداء.

المشهد المالوف والعادي جدا، هي احتفاء اطفالنا بالاسلحة البلاستيكية، من مسدسات وبنادق يلهون بها ويطاردون بعضهم البعض، مقدلدين حركات الممثلين في التلفاز، الذي يطغى بمشهديته على جميع وسائل التسلية الاخرى.

اعود الى المتنزهات وقلة اعدادها وبؤس الموجود منها، واحاول ربطه مع ما توصل اليه مروان من ان داعش على حق، استفيد من كتاب قديم للباحث اللبناني فؤاد اسحاق الخوري حمل عنوان (الذهنية العربية.. العنف سيد الاحكام) حيث يطرح في كتابه وجهة النظر التالية: حياة الفرد عندنا استمرار لا ينقطع، حبل متناسق قد يطول عمره او يقصر، ولكنه لا يتوقف عند مرحلة معينة من مراحل النمو البيولوجي كالمراهقة والصبا والشباب، او الشيخوخة والكهولة. النمو سلسلة متلاحقة لايجزأ مداها الى مراحل متنوعة يتسم كل منها بمسالك وممارسات خاصة. من خلال هذه النظرة الى حياة الفرد، تشهد مجتمعاتنا غياب الادب الطفولي، او الاهتمام بالطفل لكونه طفلا فقط، له قيمه ومسالكه وحاجاته الاجتماعية الخاصة. نعامل الطفل وكانه شاب في مرحلة الكينونة. تغيب عن مدننا التقليدية ملاهي وحدائق الاطفال. فالطفل في تصورنا شاب قادر على حمل البندقية والقتال، قادر على تادية الشهادة، والشاهد على ذلك كثرة التنظيمات التي تعد الاشبال لمعارك الصمود والتحرير وكانهم بلغوا من العمر اشده. ولكثرة مانصر على الطفل ان يتقولب على نمط الرجال ترانا اقل تمسكا بالجديد، وبالتالي اقل قدرة على الخلق والابداع، واشد تعلقا بالنسخ والتقليد. الجديد او التجديد ضرب من ضروب البدع المكروهة. قوالبنا صناديق رجالية خالصة، معدة سلفا للاستعمال.

هذا التصور لحياة الفرد يؤثر في مفهومنا للحرية. ليس الحر عندنا من مارس حرية التفكير والابداع والتعبير عن الذات الخلاقة، انما هو من استطاع حماية النفس من الاخرين تجنبا للسيطرة. الحر هو غير المسيطر عليه. نحن لا نفهم الحرية بمعناها الفلسفي، اي القدرة على التفكير والمسلك الخلاق الجديد، انما نفهمها كوضع اجتماعي يشدد على التحرر من السيطرة والهيمنة.

وهو يتفق في المعنى العام مع ماذهب اليه الفيلسوف الفرنسي (جان بودريار) في كتابه (التبادل المستحيل)، وفي فصله الخامس  الذي حمل عنوان (إنسان النرد) الى القول: إن القدرة على عدم إطاعة القوانين والقواعد الأخلاقية والآخرين هي علامة على الحرية، لكن القدرة على عدم إطاعة الإنسان لذاتِه هي الطور الأقصى للحرية. كل مرحلة من مراحل العبودية هي في الوقت نفسه أكثر دقة وأسوأ من سابقتها.

العبودية اللاإرادية، أي عبودية العبد، هي عنف مفتوح. والعبودية الإرادية هي عنف عليه توافق: حرية إرادة ولكن ليست إرادة أن نكون أحرارًا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7/تشرين الأول/2014 - 12/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م