الحوزات العلمية والضغوط الأمنية

 

شبكة النبأ: من الواضح أن الأنظمة المستبدة، لا تدّخر جهدا في مجال إخضاع الحوزات العلمية لهيمنتها، فكما ذكرنا في مقالات سابقة، أن الحكومات الفردية التي تُقاد بحاكم أعلى وحزب واحد، وما شابه من أشكال الانظمة المتزمتة، غالبا ما تلجأ الى أساليب كثيرة، لكي تجعل الحوزة العلمية تابعة لها، وتأتمر بأوامرها، ومن بين هذا الأساليب استخدام الضغوط الامنية بمختلف انواعها، لكي تُخضِع الحكومات الحوزة العلمية لارادتها.

ولا شك أن الاساليب الامنية التي يتم استخدامها هنا كثيرة ومتنوعة، ومختلفة في درجة تأثيرها، فمنها ما يتبع للأساليب المخابراتية التجسسية وسواها، ومنها ما يتبع الاساليب الأمنية، واختلاق التهم والمبررات التي تتيح للحكومة، ثغرة او منفذا قضائيا شكليا او مختلَقا، حتى تعتقل رجال الحوزة او تابعيها، ومن ثم تمارس معهم شتى الضغوطات، لتضع امامهم خياران، إما أن تكون معي، أو أنك تواجه النفي او الاعتقال او المطاردة وما شابه من ضغوطات تجعل الانسان مهددا في شخصه وعائلته ايضا.

وهناك عمليات التصفية الجسدية للرموز الدينية عندما تعجز الحكومة عن اخضاعهم لارادتها، كما حدث ابان الحكم السابق في العراق، حيث قام النظام آنذاك بمحاصرة رجال الحوزات العلمية وعلماء الدين والمراجع الدينية بمختلف توجهاتهم، واستخدم اسلوب الاغتيالات كي يحد من تأثيرهم في الشارع المضاد للحكومة آنذاك، هذا يعني بصورة لا تقبل الشك، ان الحكومات المستبدة تلجأ الى جميع الاساليب كي تحد من تأثير الحوزات العلمية على الشعب، بما يضمن عدم معاداة الحكومة، لكن التاريخ والواقع ايضا أثبت لنا فشل جميع هذه الاساليب الدكتاتورية.

ولكن هل يعني هذا أن الحكومات المستبدة، والقائمة في بعض الدول الاسلامية، سوف تتراجع عن اساليب الضغط الامني على الحوزات العلمية؟، الجواب يمكن أن نأخذه من الواقع القائم الآن، هناك بعض الحكومات في بعض الدول الاسلامية استطاعت ان تضع بعض الحوزات العلمية تحت عباءتها، فأصبح طلاب هذه الحوزات مثلا يحصلون على رواتبهم من مخابرات تلك الدول، وهذا يتم من اجل إفراغ الحوزة العلمية من تأثيرها في الشارع، وبالتالي تضمن الحكومة المستبدة، عدم تحريض الحوزات العلمية التابعة لها، مكونات المجتمع على الثورة ضد هذه الحكومة، وهو امر يمكن ملاحظته بوضوح في بعض الدول الاسلامية وحكوماتها.

فالضغط على الحوزات العلمية مادياً أمر قائم، ويعد من بين الاساليب التي تنتهجها الحكومات لجعل الحوزات تابعة لها، ولكن هذا الأمر سوف يمس بأهم شرط ينبغي ان يرافق قيام الحوزة وعملها، ألا وهو الاستقلالية، فكل ما تهدف إليه الحكومة من ممارسة الضغوط الامنية والتمويلية وما شابه، هو تحييد الحوزة العلمية، وإفراغها من قدرتها على العمل والتأثير في المجتمع بحرية، وقد مورسَ ضغط التمويل بالتوازي من الضغوط الامنية على الحوزات العلمية، حتى يبقى المجال مفتوحا لتغيير المواقف، والاصطفاف الى جانب الحكومات الظالمة، ولكن تبقى الخسارة هنا فادحة، لأنها تتعلق بأهم شرط ينبغي ان يتوافر في عمل الحوزة العلمية، ألا وهو شرط اتخاذ القرارات الشرعية واصدار الآراء والتعليمات بصورة مستقل تماما عما تريده الحكومة المستبدة وترغب به.

لذلك قد تنجح بعض الحكومات الفردية بتحييد بعض الحوزات العلمية، وتشل دورها الجوهري في ادارة الصراع بين الشعب والحكومة، من خلال أساليب التهديد المبطّنة والعلنية التي تمارسها الحكومات ضد الحوزات العلمية ورجالها، وكذلك من خلال الضغوط الامنية التي لا تقف عند حد معين، والهدف دائما (تليين) عريكة القائمين على الحوزات العلمية المستقلة، حتى تصبح تابعة او حيادية في اضعف الايمان، أي بمعنى تقبل الحكومة المستبدة بالمواقف الصامتة للحوزات العلمية، فالسكوت كما يُقال من علامات الرضى، ولكن هذا ليس مواقف الحوزات العلمية المستقلة بآرائها وبما تراه على الحكومة من اخطاء ومخاطر بحق الشعب.

فالحوزة العلمية المستقلة، لا ترهبها أساليب الضغوط الامنية، ولا قلة التمويل، ولا المحاصرة، ولا المحاولات الحكومية المستميتة لاستمالة الحوزات الدينية الى جانبها، كونها لا يمكن ان تركن الى الظلم، ولا يمكن ان تصطف الى جانب الحاكم الظالم ضد الشعب، حتى لو قادها ذلك الى مواجهات علنية مع الحكومات الدكتاتورية في حقيقتها والديمقراطية في ظاهرها فقط، وهذا ما حدث ويحدث الآن في بعض الدول الاسلامية، حيث الصراع قائم بين الحوزات العلمية المستقلة، وبين بعض الانظمة التي تقوم على الفردية والاستبداد، ولكن بالنتيجة لن يكون اسلوب الضغط الامني مجديا مع الحوزات الراسخة باستقلاليتها، وسيكون النظام السياسي المستبد هو الخاسر على الدوام كما تنبئنا تجارب التاريخ القريب والبعيد على حد سواء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 1/تشرين الأول/2014 - 5/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م