الرأي العام واختبار مصداقية الاعلام

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: بعد ان كان يفخر ويزهو بمكانته المرموقة بين السلطات الحاكمة في دول العالم، وقد شكل "سلطة رابعة"، وتبختر على معظم وسائل التأثير على العقول والاذهان وحتى الاذواق والسلوك، ليشكل بالمحصلة رأياً عاماً في المجتمع بامكانه التأثير على القرار وصنع الاحداث، بات هذا "الرأي العام" هو الذي يتسنّم المكانة والمنزلة المهمة بعد ان استنفذ الاعلام بكل وسائله وتقنياته، أغراضه وقال كلمته وكشف كل أوراقه، بمعنى أن إعلام اليوم، وفي المقدمة القنوات الفضائية التي لا تُعد ولا تحصى، مع مليارات الدولارات التي تصرف بلا حساب، اصبحت اليوم تعدو خلف الرأي العام وتخوض تنافساً محموماً واحياناً غير شريف – إن صحّ التعبير- لكسب المشاهد وإرضاء رغباته على أمل التأثير عليه في مرحلة لاحقة، وقد أفصح عن هذه الحقيقة أحد مدراء القنوات الفضائية العربية لعدد من المتدربين لديه، بأن يضع في حسبانه أن المشاهد الممسك بجهاز "ريموت كنترل" إنما يمسك بمسدس أمام التلفاز، وسيطلق النار على القناة التي لا تعجبه ليتحول الى قناة أخرى..!.

هذا الواقع المرّ الذي يعيشه إعلام اليوم، جعله يفقد قيمته الى حد كبير ودوره الكبير والمعروف قديماً في صنع الرأي العام وصياغة الموقف والرأي وتعبئة النفوس وبالنتيجة صناعة الحدث والتأثير على القرارات المصيرية في الدولة. ولهذا اسباب عديدة لسنا بصدد ذكرها في الحيّز المحدود، إنما نسلط الضوء على "المصداقية" التي تمثل بالحقيقة لغة وضمير الاعلام، وبها يُعرف ثم يؤتمن عليه فيما يقدمه من طرح وتحليلات للمواد الاعلامية. بل ويُعذر لهويته وانتمائه، ويعطى له الحق في تبني أي توجه فكري وثقافي من باب التعددية في الرؤى والافكار وحرية التعبير.

بيد أن الذي حصل خلال السنوات الماضية، لاسيما في الفترة الراهنة، أن الاعلام فرض توجهات وغايات بعيدة عن واقع الرأي العام، على الرأي العام نفسه..! وبدلاً من توجيهه نحو البناء والتنمية على الصعيد الاقتصادي، ونحو التكافل والتكامل والسلم الاهلي على الصعيد الاجتماعي، ونحو الاستقرار السياسي، نلاحظ الشحن الطائفي والتضليل وتغييب الحقائق او تشويهها والتلاعب بها خدمة لمصالح خاصة، ربما تكون لدول أو دوائر مخابرات او حتى لاشخاص من ذوي النزعات الطائفية او القومية الضيقة.

وهذا ما يحذر منه سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "الرأي العام وسبل توجيهه". حيث يؤكد ان الاعلام بتوجهه السلبي والهدّام ينتهي الى "صناعة مجتمع متخلف جاهل حتى يسهل له الاختراق وتسميم الأفكار".

بل ان سماحته يوضح الصورة اكثر عندما يصف المآل الاخير للاعلام الفاشل أمام الرأي العام، عندما تسود حالة من التشكيك والريبة إزاء بعض وسائل الاعلام، بان "مجرد سماع كلمة "إعلام" يتبادر إلى ذهن الكثيرين، الجانب السلبي للإعلام.."، وهذا بسبب ما يصفه سماحته بـ "الاعلام المغرض" والسلبي.

فهنالك العديد من القنوات الفضائية التي تدعي "الحقيقة" وأنها أول من تعثر عليها وآخر من يسكت عنها..! بل هي "صوت الحقيقة..."! وغير ذلك من الشعارات واللافتات التي لا تبتعد عن الشعارات التي ترفعها الاحزاب السياسية الطامحة نحو السلطة. لكن لا تلبث ان تجانب هذه الحقيقة عندما تصطدم مع المصالح المادية للبلد او رئيس الدولة او الجهة الممولة لها، ولا أدل من الحرب الطاحنة التي يشهده العراقيون منذ الاطاحة بنظام صدام، فما دامت كفة الصراع لصالح الشيعة سواءً على الصعيد السياسي او في الميدان، فان الحقيقة للكفة الاخرى، حتى وإن سالت من تلك الكفة الدماء الغزيرة وبانت حقائق وشواهد تدين الآخر على مجازر مريعة وجرائم بحق الانسانية. مثال واحد من مئات وآلاف الامثلة، تسليط الضوء على تظاهرة في بغداد تدعو الى إطلاق سراح معتقلين من انصار السيد محمود الصرخي، وتنقل صوت المتظاهرين الذين يدعون الى إلغاء فتوى الجهاد الكفائي ضد الجماعات الارهابية بحجة أنها قتال بين المسلمين..! فيما هناك أصوات عالية الى عنان السماء ومطالبات واسعة بدماء سالت في قاعدة "سبايكر" ومناطق اخرى لمغدورين ربما يفوق عددهم الالفي انسان.

طبعاً؛ هذا لا يعني التشاؤم وإطلاق الحكم السلبي على جميع وسائل الاعلام والقنوات الفضائية كافة، إنما بالامكان تلمّس الطريق الصحيح لاعلام ناجح وبناء يقبل عليه المخاطب والمجتمع ويكوّن رأي عام جارف وقادر على تغيير مجرى الاحداث نحو الاحسن وليس العكس. وهذا ما نجده في كتاب سماحة الامام الراحل، حيث يحدد ثلاثة عوامل – من جملة عوامل- داخلة في صناعة الإعلام الهادف والسليم":

1 ـ الفكرة السليمة.

2 ـ الأسلوب الأمثل.

3 ـ الوسيلة الجيدة.

ويؤكد سماحته: متى ما تحققت هذه العوامل الثلاث، وكانت في المستوى المطلوب، استطاع الإعلام أن يكوّن رأياً عامّاً واعياً، ونشير هنا إلى هذه العوامل بإيجاز:

أولاً: الفكرة السليمة: كلّ عمل سليم يقوم به الإنسان يجب أن يكون وراءه فكرةٌ سليمة، حتى يكون ناجحاً ومثمراً، فالإعلام إذا أُريد أن يكون في المستوى المطلوب، يجب أن يعبّر عن فكرة سليمة ويكون هدفه نبيلاً.

ثانياً: الأُسلوب الأمثل: قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...}. فهذه الآية الشريفة، حدّدت لنا الأُسس الصحيحة في كيفية التعامل مع الناس، فكما أنّ للفكرة أهمية في نجاح مهمة الإعلام، كذلك الأُسلوب الجيد، فيجب على مَن يتولى مهمة الإعلام أن تكون له دراية كافية في كيفية مخاطبة الناس وإقناعهم.

وإنّ هناك الكثير ممّن يحمل أفكاراً جيدة وسليمة، ولكن أُسلوبهم في التعامل مع الآخرين لا ينسجم مع الناس، فغالباً يكون مصيرهم الفشل، وهذا من أهم الأخطار التي غزت عالمنا الإسلامي اليوم، فبعض القائمين على مؤسسات الإعلام في عالمنا الإسلامي يحملون أفكاراً جيدة، ولكن لا يملكون الأُسلوب المناسب في التعامل، مما يقودهم إلى الفشل في مهمتهم.

ثالثاً: الوسيلة الجيدة: مرت الوسائل التي تستخدم كآلة لنشر الإعلام بمراحل مختلفة من عصر إلى آخر، ففي العصور الماضية، وإلى وقت قريب، كان يقع على الإنسان منفرداً مهمة الإعلام، أمّا في عصرنا هذا، عصر التطور الصناعي ونتيجة للطفرة العلمية التي حققها العالم، فإنّ الأجهزة الإلكترونية الحديثة والأقمار الصناعية، وكذلك النشرات الإعلامية والصحف، ساهم كلّ ذلك في رفع مستوى الإعلام وتطوره.

الى هنا ينتهي حديث سماحة الامام الشيرازي الراحل حول الخطوات اللازمة لتحقيق اعلام ناجح يصنع رأي عام مؤثر، يبقى على القائمين على الاعلام في بلادنا، لاسيما الاعلام  الملتزم الذي يحمل رسالة الكلمة والغاية السامية أن يضع الخطط والمناهج لاعلام يستفيد من كل الفرص المتاحة والامكانات الموجودة لخدمة الحقيقة ونصرة الحق مهما كلف الثمن، وهذا التوجه بحد ذاته هو الذي يخلق الشعور الايجابي لدى عامة الناس المشكلين للرأي العام المنشود ويجعلهم يثقون بهذه القناة الفضائية او تلك الصحيفة والمجلة وغيرها فيضعون ثقتهم فيها ويعدونها المصدر الآمن للمعلومة والتحليل الصحيح للاحداث.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 24/آيلول/2014 - 28/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م