تعيش النخب العربية أزمة أخلاقية ووجودية لا مثيل لها في تاريخ
الحياة السياسية والثقافية في العالم العربي. وقد تجلى هذا الواقع
المتأزم للنخب العربية في خضم "الربيع العربي" وثورة الشباب التي كشفت
عن ضعف هذه النخب وزيفها وعجزها وعدم قدرتها على أداء دورها التاريخي
في توجيه الحياة الثقافية والسياسية في هذه المرحلة التاريخية الصعبة
في تاريخ المجتمعات العربية. وقد بينت الأحداث الجسام أن هذه النخب
العربية متخلفة في بنيتها، وطبيعتها، ويتجلى تخلفها هذا في انتهازيتها،
وتذبذبها وازدوادجيتها وتسلطها، وعجزها الكامل عن ممارسة اي نوع من
الفعالية التاريخية في زمن الثورات والتغيرات والانفجارات التاريخية.
يقصد بالنخب المتخلفة (تخلف النخب) هذه النخب التي لم تستطع أن
تواكب الواقع الاجتماعي في بلدانها، ولم تستطع أن تتجاوب مع متطلبات
ومقتضيات النهوض الحضاري لشعوبها، ومثل هذه النخب موجودة في مختلف
أرجاء المعمورة في الدول المتقدمة كما هو الحال في الدول المتخلفة على
أحد سواء.
ونعني بـ "نخب التخلف" هذه النخب التي تكون متخلفة بطبيعتها وجوهرها،
وهي نتاج طبيعي لأوضاع التخلف في المجتمعات القاصرة المتخلفة، وهذا
يعني أن النخب في المجتمعات المتخلفة غالبا ما تكون نتاجا للتخلف
وجوهرا له في الآن الواحد ومثل هذه النخب موجودة حكما في البلدان
المتخلفة.
ولو انطلقنا من هذا التصور في رصد واقع النخب العربية لوجدنا أن
النخب تتصف بجوهرية التخلف وهذا يعني أنه يمكن لنا أن نصفها بـ " نخب
التخلف" لأن التخلف صميمي في جوهرها ومظهرها على حدّ سواء. وهي في أفضل
أحوالها كانت وما زالت أضعف من أن تكون قادرة على التجاوب مع إيقاعات
العصر الجديد والاستجابة لمتطلبات الجماهير والقضايا المصيرية
والوجودية للأمة في حاضرها ومستقبلها.
لا يحتاج الباحث إلى كثير من التأمل للتعرف على الهوية الاستبدادية
للنُّخب العربية في مختلف تجلياتها السياسية والثقافية والدينية
والإعلامية، وذلك عندما يتم النظر إلى هذه النُّخب من منظور الواقع
الاجتماعي المتخلف الذي تعيشه المنطقة العربية بصورة عامة. ولا يخفى
على أحد مهما بلغ مستواه المعرفي أن المنطقة العربية محكومة بأنظمة
سياسية استبدادية واضحة المعالم منذ عهد الاستقلال في بداية القرن
الماضي.
فالنخب العسكرية هي التي تحكم البلدان العربية بالحديد والنار. وضمن
مركزية الاستبداد السياسي واستراتيجياته فإن النُّخب الثقافية
والإعلامية والدينية تدور في فلك النخبة السياسية الحاكمة وتعمل على
تعزيز وجودها وإعادة انتاجها، وإبداع أيديلوجيا التمجيد بحضورها وقيمها
وضرورة المنافحة عنها وعن وجودها.
وقد عملت الحكومات العسكرية الاستبدادية على تفريغ النُّخب
الاجتماعية والسياسية والثقافية من محتواها الإنساني والتنموي لتجعلها
طاقة استبداد فكري وسياسي وإعلامي تساند كل أشكال الاستبداد والاستعباد
التي تشكل السمة الأساسية للنظام السياسي والاجتماعي القائم.
لقد كشفت" ثورات الربيع العربي " الستار عن وضعية السقوط التاريخي
الكبير للنخب العربية في أي صورة من صورها في مختلف تجلياتها
وتعيّناتها. وليس غريبا هذا السقوط إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه
النُّخب قد تشكلت في أحضان أنظمة سياسية استبدادية على مدى نصف قرن
ونيّف، وأن هذه النُّخب قد رضعت من حليب الاستبداد وعاشت على فتاته
فأخذ صورتها بوصفها نخبا هجينة ضعيفة هشة غير قادرة على أن تكون في
مستوى الحركة التاريخية للشعوب في المنطقة العربية. إذ سرعان ما تساقطت
وتهافتت هذه النُّخب وانحدرت إلى الدرك الأسفل من معاني القيم والوجود
في مختلف المواقف الوجودية والمصيرية لشعوبها. وضمن هذا التصور يمكن
القول أن النُّخب العربية فقدت كل مقومات النُّخب القادرة على توجيه
الحياة السياسية نحو الأفضل وممارسة دورها النقدي التاريخي في توجيه
الحياة توجيها إنسانيا أفضل.
لقد اقتصر دور النُّخب الثقافية العربية من الشعراء، والكتاب،
والمفكرين، وأساتذة الجامعات، والنقابيون، ورجال الدين، على تمجيد
أنظمة الاستبداد، فعملوا على إنتاج التصورات الأيديولوجية التي تخدم
استبداد هذه الأنظمة السياسية وترفع من شأنها وتؤصل استبدادها. فكان
رجال الدين والفن والثقافة مجرد أبواق هجينة يوظفها النظام السياسي في
خدمة مشاريعه الاستبدادية ونزواته المرعبة في مزيد من الفساد والتسلط
والعبثية.
لقد شاهد المواطن بأم عينه تقلب المثقفين ورجال الدين في مواقفهم من
الأنظمة السياسية القائمة، فمع سقوط نظام حسني مبارك تبرأت النُّخب
المصرية الثقافية والدينية من هذا النظام، وتحركت في موجة التأييد
للنظام الإخواني الجديد برئاسة محمد مرسي، ثم عادت من جديد بعد
الانقلاب لتأييد النظام العسكري القديم عينه الذي كان يحكم البلاد،
ولكن هذه المرة تحت راية السيسي الزعيم الجديد للبلاد، وكأن البلاد لم
تتغير وفي حركتها التاريخية لم تتبدل وبقيت النُّخب على ما كانت عليه
من تبعية وهامشية وارتدت إلى دورها التبريري يستوي في ذلك أن يكون
النظام إسلاميا أو ماركسيا أو عسكريا فالبلاد واحدة والرب واحد والدور
لم يتغير وبقي يراوح رقصا على أنغام الاستبداد. ويمكن ملاحظة هذا
الوضعية نفسها للنخب في لبنان وسوريا وفي تونس واليمن حيث تحول من
الولاء الجارف لاستبداد النظام إلى الولاء البغيض للطائفية والعنصرية
والتفكيك. وهذا كله يعني أن هذه النُّخب أثبتت بجدارة أنها نخب
الاستبداد والتخلف في بنيتها ووظيفتها وعوامل وجودها.
فالنخب الثقافية والدينية والإعلامية تشكلت في أحضان الأنظمة
القائمة واستطاعت الأنظمة القائمة أن تستلبها وتوظفها في توليد
الأيديولوجيات، والأفكار والتصورات التي تعزز من حضور هذه الأنظمة
السياسية القائمة. وأصبحت هذه النُّخب في الغالب نوعا من البرباغاندا
الإعلامية، والأيديولوجية للأنظمة السياسية القائمة. واستطاعت هذه
النُّخب أن تفرض نفسه عبر نصف قرن من الزمن بوصفها نخبا رديفة للسلطة
تنافخ عنها وتبرر وجودها.
وقد حملت هذه النُّخب سمات المجتمع المتخلف الذي نشأت فيه تماهيا مع
طبيعة التسلط السياسي والاجتماعي القائم، فتحولت إلى نخب رثة ضعيفة غير
قادرة على الفعل، وبقي دورها في مجال التبرير السياسي والأيديولوجي
لأنظمة التسلط الاجتماعي.
وما يحزّ في النفس أن بعضا من كبار المفكرين السوريين مشغولون اليوم
بالمناظرات العلمية عن عدد السنة وعدد الشيعة في الشرق الأوسط، وكل
يقدم حججه وبراهينه على أن أرقامه وإحصائياته هي الأفضل. واين هي هذه
المناظرات من هذه التي شغلت النخب في البلدان الحرة حول القضايا الأكثر
أهمية وحيوية في الوجود الإنساني مثل قضايا السلام والحرب والهوية
والأنسنة والميتافيزياء والفلسفة والفكر والتاريخ في قضايا الفلك
والفيزيا والذرة ودوران الأرض والحياة والوجود وأصل الحياة على الأرض.
ما يؤسف أن الغرق في مستنقع الطائفية والمذهبية والغليان العرقي
والمذهبي هو ما يشغل النخب العربية اليوم.
وتأتي هذه المهازل نتاجا لفعالية الأنظمة السياسية الاستبدادية في
العالم العربي التي عملت منذ بداية عهدها على التحكم في كل شيء ولاسيما
في عملية صقل النُّخب على مقياس رغائبها ونزواتها، فوظفت نظام التعليم
والابتعاث على مقياس الولاء للاستبداد والفساد، فظهرت نخبة مرعبة من
الشعراء، والموسيقيين، ورجال الدين، وحتى أئمة المساجد، والإعلاميين،
الذين يصدحون حبا بالحاكم ويتمايلون طربا هوسا به.
فالحاكم الذي صنعهم هو مبتدأ الوجود وخبره به بالنسبة لهم. وبناء
على هذا التماهي بين الحاكم ونخبته المصنوعة، لا يكون خطاب هذه النُّخب
إلا صدى لسيدها ووليَّ نعمتها، ولايمكن أن يكون أن يتجاوز خطابها أكثر
من دائرة التمجيد والتعظيم والتسبيح بحمد الحاكم وفضله على الأمة
والشعب ومآثره في التاريخ والمجد، وجوهر خطابهم يكون في إسباغ طابع
القداسة على شخصه واسمه وعائلته وعدله وحكمته وتضحياته العظيمة من أجل
الشعب والوطن والأمة.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |