داعش واضطراب البصيرة وأمريكا

صالح الطائي

 

إصرار داعش على المضي بتطبيق منهجها المخالف لكل القيم والمثل والمواثيق والاتفاقيات، يؤكد أنهم مصابون وبشكل جمعي، ولاسيما قياداتهم العليا وأمرائهم بما يعرف باضطراب البصيرة، والمعروف أن البصيرة الكاملة غير المضطربة: هي أن يدرك الإنسان نتائج كل عمل يروم القيام به، فيدرك المريض مثلا طبيعة مرضه، ويذهب إلى الطبيب المختص طلبا للعلاج، ويتقبل العلاج ويستمر فيه، وكذلك يَعرِف المخطئ أنه يجب أن يراجع نفسه ويصحح خطأه، ومن ينوي القيام بعمل ما، يقوم أولا بتحليل نتائج العمل الذي يروم القيام به قبل البدء بتنفيذه.

أما في حالة اضطراب البصيرة فلا يستطيع الإنسان فهم نفسه داخليا، ولاسيما فيما يتعلق بمرضه، ومشكلاته الاجتماعية، ومسؤولياته، ونتائج أعماله، ولذا لا يدرك المريض مضطرب البصيرة طبيعة مرضه، ولا يفهم أسبابه، ولا أعراضه، بل لا يعتقد أنه مريض يحتاج إلى العلاج. ومن ثم لا يسعى إلى استشارة المتخصصين، ولا يبحث عن العلاج، بل لا يتقبل العلاج أساسا، وحتى إذا تقبله مرغما أو مجاملة فإنه لا يستمر فيه. ولذلك يجعل اضطراب البصيرة العلاج صعبا وغير مجد. وهذا بالضبط هو السبب المباشر لما يعانيه المجتمع العالمي والمجتمع الإسلامي في تعامله مع التنظيمات الإرهابية عامة وتنظيم داعش بوجه الخصوص، لأن اضطراب بصيرة الدواعش أعمى عيونهم عن إدراك حقيقة الأعمال المخالفة للمنطق وللدين؛ التي يقومون بها.

هذا المنطق المنحرف جعل الدواعش يرون أنفسهم أنهم مكلفون فوقيا من الله تعالى لإعادة تقويم العالم الفاسد، والحكومات الفاسدة، والشعوب الفاسدة، بل وحتى الإسلام الذي يؤمن به غيرهم، وذلك عن طريق (النضال) الدموي المغرق بالقسوة والعنف، مع رفض كلي لأي شكل من أشكال النضال السلمي، ولذا يقول "أبو محمد العدناني" المتحدث باسم داعش، في خطبة له لدحض ونقض النضال السلمي تحت عنوان "السلمية دِينُ مَنْ؟: "إن أمتنا اليوم تعيش في عبودية وذل، والدليل على ذلك ما عُرف بثورات الربيع العربي التي خرجت تطالب بالحرية والكرامة. فإن جيوش الطواغيت قد أذلت المسلمين وعبدتهم لقوانين وضعية شركية ظالمة، ولولا هذه الحقيقة المرة لما خرجت الشعوب بأيدٍ عُزل تتحدى رصاص الطغيان والجبروت بصدورٍ عارية، عازمة على رفع الظلم وكسر قيود الذل".

وأرى كما يرى كافة العقلاء والأسوياء في العالم أن هذا المنطق الفج لم يعد له مكان في منظومة التعاطي العالمي، لأنه يمثل نكوصا حضريا، وعودة إلى افتراسية الغاب وقوانينها. وكما يحتاج المريض إلى العلاج ولو بالقوة، أجد أن المجتمع الدولي والمجتمع الإسلامي عامة معنيان بضرورة التصدي للتنظيمات الإرهابية المتطرفة، لحماية المجتمع أولا، وحماية الدواعش أنفسهم من شر أنفسهم ثانيا، لأنهم تسببوا في مقتل آلاف الشباب بعد أن ملئوا رؤوسهم بمفاهيم غبية تدعي أن الطريق إلى الجنة، والتنعم مع حور العين بلا قيود ولا عدد، لا يعبد إلا بسفك الدماء والتخريب، وكلما كثر سفك الدم تحت شعار (جئناكم بالذبح) يصبح أكثر موائمة للوصول إلى الله، دونا عن كل الطرق الأخرى.

ولكننا للأسف لم نلمس موقفا جادا لا من الدول العظمى ولا من المنظمات الدولية؛ بما فيها الأمم المتحدة، وكل حراكهم يبدو مجرد حراكا سياسيا غير جاد، يدعم في بعض جوانبه الإرهاب والتطرف.

وأما أمريكا فهي المتهم الأول بتأسيس هذه الحركات ودعمها وتطويرها، وهي لا يمكن أن تستغني عن خدماتها، وكل الذي يحدث، وكل الحديث عن الحشد العالمي لمحاربة داعش إنما هو ذر للرماد في العيون، لأن أمريكا تتعامل مع هذا التنظيم وفق منهجية مدروسة بعناية، فهي توكل له تنفيذ مهمة ما، ثم بعد أن يحقق هدفها بنجاح ولو جزئي، تقوم بتمثيلية ساذجة أخرى، لتغطي على نقل التنظيم إلى مكان آخر، وأعتقد أن تمثيليتها الجديدة التي نسمع عنها ولا نرى لها أثرا، جاءت للتغطية على تحريك داعش من العراق وسوريا إلى تركيا وإيران والأردن ودول الخليج، فالفوضى في هذه البلدان وحدها ستجعلها تتوسل أمريكا وتدين لها بالولاء المطلق.

أما الجامعة العربية، والبلدان العربية منفردة؛ فهي غالبا داعمة لداعش وللإرهاب والطائفية؛ أكثر من كونها جادة في وقف العنف في العالمين العربي والإسلامي، وهناك عشرات الدلائل على وجود تعاون كبير بين التنظيمات الإرهابية وتلك الحكومات تسبب في تنامي قدرات هذه التنظيمات، وان الحركة ما كانت لتصل إلى ما هي عليه اليوم من دون هذا الدعم المادي والعقدي والإعلامي واللوجستي.

وأما البلدان العربية التي ابتليت بهذا الداء القبيح كالعراق وسوريا، فهي صاحبة المصلحة الكبرى في التصدي لهذه العصابات المنحرفة بنفسها وبكل السبل المتاحة، وخارج سياقات الاتفاقيات الدولية، وما يعرف بحقوق الإنسان، وغيرها، وعلى جميع المذاهب والقوميات والجماعات والأحزاب في هذين البلدين تحديدا أن يتفقوا على كلمة واحدة سواء للدفاع عن الوطن، وتفضيل مصلحة الأمة على المصالح الفئوية والمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، لأنهم مهما كانت أرباحهم من الفوضى المعاصرة، سيصابون بخسائر أكبر مستقبلان؛ قد لا يتوقعونها، فالتنظيمات المتطرفة المتحجرة لن تستثني قومية ولا دينا ولا فئة ولا مذهبا ولا حزبا، يخالفها الرأي أو المعتقد، ولا يدين لها بالبيعة والعبودية، وسيكون انتقامها منه مقرونا بالإذلال والتحقير، لأنها ستنفرد به إذا انتصرت.

إن كل إنسان سوي عاقل يحترم وطنه وكرامته وشرفه يجب أن يتصدى لهذه العصابات بكل الوسائل المتاحة، أما التحجج بحجج واهية ووهمية، فهي مجرد دوافع طائفية وسياسية لن تجدي نفعا، وسيلعن التاريخ كل المتخاذلين الذين سيعيشون بوجوه سوداء عندما يتحقق النصر على داعش ومن يدعمها.

والذي أعتقده يقينا أن دور داعش في العراق وسوريا قارب على الانتهاء، وأنها ستغادر هذين البلدين قريبا بعد ان تترك مجاميع تقوم بأعمال متفرقة لدوام حالة اللاأمن وللاسلام.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/آيلول/2014 - 22/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م