العصر الرقمي الجديد

إعادة رسم مستقبل الشعوب والامم والاعمال

حاتم حميد محسن

 

ان وادي السليكون هو المرادف لمشرق الشمس(1). الشباب من الرجال والنساء يرتدون البنطلونات القصيرة للعمل، ويتقاضون رواتب بستة ارقام (على الأقل مائة آلف دولار) ويدّعون فرحين انهم يسعون لجعل العالم "اكثر انفتاحا وارتباطا". ثلاثة كتب جديدة، من بينها اثنين لمؤلفين تميّزا بخبرة استثنائية، تبيّن كيف ان عنصراً جديداً واكثر قوة اضيف لصناعة التكنلوجيا المليئة سلفا بعنفوان الشباب والتفاؤل – وهو عنصر السلطة.

Evgeny Morozov، هو ناقد حاد لغرور وخيلاء وادي السليكون. كتابه الاول "وهم النت" The Net Delusion الصادر عام 2011، يرفض الدعوة المكررة دائما بان التكنلوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي هي بذاتها جيدة للديمقراطية. بدلا من ذلك، هو يرى ان التكنلوجيا هي اداة نموذجية للدول القمعية في السيطرة على مواطنيها. عمله الجديد والكبير "لكي تحفظ كل شيء اضغط هنا" To Save Everything, Click Here يذهب الى ابعد من ذلك.

السيد موروزوف يهاجم رغبة التكنلوجيين في حل مشاكل العالم عبر "اعادة صياغة المواقف الاجتماعية المعقدة كمشاكل محددة بدقة". هو يسمي هذا الموقف المتغطرس لوادي السليكون المتسلط على البيانات – بالاتجاه الكمي لحل المشاكل الذي تبنّتهُ غوغل الى جانب اخرين – وهو يتجاهل الدقة والفكر التحليلي. لو ان الناس سمحوا للمهوسين بإدارة العالم فان كل شخص سيرسل محتويات سلة النفايات لديه الى الفيس بوك ويراقب نفسه على مدار الساعة باسم العلم والفاعلية. هذه السلطة تدار بلا حكمة.

ان موروزوف صنع اسما لنفسه بمهاجمة زملائه، ونقاده صرفوا النظر عنه كجاذب للانتباه. نغمته الهجومية والانتقادية الحادة هي بالتأكيد تقلل من قيمة جداله. هذا الشيء لا يمكن قوله عن Jaron Lanier، عالم الكومبيوتر الذي وضع مصطلح "الواقع الافتراضي" والذي يعمل حاليا مع مايكروسوفت. ومع ان لانير يعترف عدة مرات في كتابه الجديد "منْ يمتلك المستقبل؟" Who Owns the Future؟، بانه جزء مما ينتقده، وانه يستفيد من المشاركة النشطة في البرامج التي يفضل ان يرى نهاية لها.

رؤية لانير تأثرت بجانبه العملي كموسيقي. وبدلا من التبشير بعصر جديد من الرخاء، هو يقول، صناعة التكنلوجيا تجعل العالم اكثر فقراً(1). الوظائف في المهن الابداعية، مثل الموسيقى والكتابة، قد اختفت، بفضل سهولة الاتصالات والاستنساخ. والعديد من الوظائف التقليدية للطبقة الوسطى ستكون حتما في طريقها الى الزوال.

يلقي لانير باللائمة على بنية شبكة الويب. النظام بُني لإقناع مستخدم الانترنيت لتبادل المعلومات مجانا – الايميل، شبكات التواصل، البحث – كلها تعاملات تفضل اكبر الشركات. هو يسمي هذه الشركات بـ siren servers بسبب جاذبيتها التي لا تُقاوم. وبينما تصبح هذه الشركات اكثر ثراءً بالمعلومات الغزيرة المتوفرة بلا كلفة، الا ان الناس العاديين لا يُدفع لهم شيء وسيصبحون في فقر مدقع.

يعرض الخبير لانير حلا مثيراً. اذا كانت المعلومات تستحق النقود (وازدهار الشركات المتاجرة بالمعلومات يؤكد ذلك) عندئذ يجب ان يُدفع للناس مقابل ما يساهمون به. هو يتأمل آلية معقدة لم تعد فيها خدمات مثل الفيس بوك تُقدّم مجاناً. ولكن ايضا لم يعد فيها الحصول على البيانات مقابل لاشيء. موجدو البيانات سوف يُدفع لهم ملايين من المبالغ الضئيلة جداً كأن تكون 1% من البنس (micropayments)، مستخدمو المعلومات يجب ان يدفعوا ثمنا حتى عندما يعترف المؤلف بصعوبة مثل هذا البيع.

واذا كان عمل موروزوف يتأصل في النظرية وعمل لانير يقوم على التجربة الفردية، فان Eric Schmidt and Jared Cohen يركزان عملهما الجديد "العصر الرقمي الجديد" على البحث المكثف. السيد Schmidt هو رئيس ومدير تنفيذي سابق لغوغل. شريكه في الكتابة كان سابقا مديرا لقسم حكومي، ويدير حاليا بنك الافكار في غوغل.

ان كتاب "العصر الرقمي الجديد " هو المحاولة الاكثر طموحا حتى الآن في رسم شكل العالم الذي سينشأ كنتيجة لاختراق الشبكات الالكترونية لكل زاوية ولكل جزء من حياة الناس. حاليا فقط ثلث سكان العالم مرتبطون بالنت اما المتبقي وعددهم خمسة بلايين شخص سيرتبطون بالانترنيت بأسرع مما متوقع، هذا سيكون حسب رأي المؤلفين اكبر تطور تحولي حقيقي في التاريخ. يرى المؤلفان ان غالبية البشرية ستستفيد من الارتباط بالنت لكن تجربة الناس سوف لن تكون واحدة. فـ "النظام الرقمي الطبقي" Digital caste system سيستمر في المستقبل، وان مدى استفادة الناس من التكنلوجيا ستعتمد على موقعهم في ذلك النظام: الفقراء سيكونوا الاكثر فائدة بسبب المكان الذي يعيشون فيه، لكنهم سيواجهون ايضا اسوأ سلبيات العصر الرقمي.

يشير الكتاب الى ما يعنيه الارتباط connectivity بالنسبة للدول والمواطنين والصراعات. الفضاء الالكتروني سوف لن يتجاوز النظام العالمي القائم لكنه سيجعل كل شيء اكثر تعقيداً. الدول، مثلا، ستجد نفسها بحاجة لسياسات محلية للتعامل مع العالمين الطبيعي والافتراضي، والى سياستين خارجيتين واحدة للعلاقات الدولية العادية واخرى للفضاء الالكتروني. والسياسات تختلف في كل حالة.

الكتاب جاء في سبعة فصول كل فصل يحمل عنوان "مستقبل". لذا هو يتعامل مع مستقبل الهوية، مستقبل الدول، مستقبل الثورة، مستقبل الارهاب، مستقبل الصراع، مستقبل الحروب والتدخلات، واخيراً إعادة البناء reconstruction..

ان افكار المؤلفين طموحة، حتى في ظل قيود اللغة. الذكاء الاصطناعي والروبوتات الموجّهة فكرياً يشكلان مستقبلاً مألوفاً. السيارات ذات القيادة الآلية والواقع الافتراضي اصبحا سلفا تكنلوجيا استهلاكية، جزئيا بسبب غوغل ذاتها. في بدايات هذا الكتاب، التركيز كان على كيفية تأثير التكنلوجيا على هياكل السلطة. المقابلات وحدها هي دليل على السلطة التي تتمتع بها شركات التكنلوجيا: الشركات الثرية، البيروقراطيين من الطبقة العليا، رؤساء الاستخبارات والقادة والقادة السابقين في ماليزيا ومونغوليا وراوندا ومكسيكو وتونس.

الحكومات التي تنكر التغيير الوشيك ستجد نفسها تصارع للسيطرة على مواطنيها. المؤلفان يستشهدان بمصر كمثال. في يوم 28 جنوري عام 2011 اغلقت حكومة مبارك الانترنيت استعدادا للاحتجاجات. وهو ما ادّى الى تدفّق الناشطين الى الشوارع الامر الذي عجّل من نهاية النظام.

تعليق الانترنيت ربما هو وسيلة غبية لكن السيطرة عليه يمكن ان تكون اداة فعالة. الصين وايران يرغبان كثيرا باتباع هذه الحلول. دول اخرى هي اكثر دهاءاً. تركيا، مثلا، دائماً تعدّل مستوياتها من المراقبة و التنقية معتمدة على كل من اهواء السلطة وطلبات الجمهور. المؤلفان يسميان هذا النموذج بالنموذج "الخجول" للتنقية.

عندما تصل الحكومات الى تفاهم مع التغيرات الناجمة عن الخدمات المجانية المقدمة من جانب شركات مثل غوغل -- التي لا يستطيع المصريون خلافا للامريكيين تقديمها اذا كان نظام لانير العالمي للمدفوعات حقيقيا – فان الانترنيت حتما سوف يتشظى ويتبلقن. المؤلفان يتوقعان مستقبلا كئيبا ربما ينطوي على حماية للانترنيت الوطني، باعتماد فيزا مرور افتراضية مطلوبة للدخول. الانترنيت منقسم سلفا لمدى معين، حيث الوصول الى العالم الخارجي مقيد من جانب الانظمة القمعية، وعوائق اللغة تجعل الاخرين، مثل اللغة الروسية، نظام ايكولوجي منفصل.

ان القضية الملحّة الاكثر اثارة للاهتمام هي الحرب الالكترونية. الهجمات تتزايد وتصبح اكثر شيوعا بين الصين وامريكا. لجنة البرلمان البريطانية في تقريرها للسنة الماضية دافعت من اجل استخدام الحرب الالكترونية للوصول لشبكات العدو "بدون ان تُكتشف". الحماية الالكترونية، حسبما يرى مؤلفا الكتاب، ستصبح القضية الاكثر قلقا في السنوات القادمة.

"العصر الرقمي الجديد" هو عمل لا يستهان به. وعلى الرغم من انتماء المؤلفين، فان الكتاب ليس مروجا لبروبوغندا وادي السليكون. والاكثر اهمية، انه يحوّل النقاش بشأن التكنلوجيا، فيرفعه من الجدالات العادية حول منفعة الشبكات الاجتماعية الى قضايا اوسع تتعلق بالكيفية التي تتفاعل بها التكنلوجيا مع السلطة.

وكما يشير السيد لانير، ان قادة الصناعة راكموا سلطات هائلة. بعضها جاء من تنظيم وتحليل المعلومات عبر عمليات الحساب الخوارزمي التي يهزأ بها مستر موروزوف. المؤلفان سكدمت وكوهين يبينان ان السلطة يمكن استخدامها بشكل مدروس. ولعدة قرون بقي العالم منظماً بفعل حوافز الدين او الدولة. اما هذه الكتب فتعلن عن وصول السلطة الثالثة.

....................................

كتاب The New Digital Age: Reshaping the future of people, Nations and Business للكاتبين Eric Schmidt and Jared Cohen، صدر عن دار knopf عام 2013 في 319 صفحة.

...............................

المصادر:

1- الايكونومست في عددها ليوم 4 مايو 2013.

2- The guardian 28th April 2013

................................

الهوامش

(1) وادي السليكون هو منطقة في سانفرينسسكو بكاليفورنيا في الولايات المتحدة، ويُعتبر مركز التكنلوجيا في امريكا. معظم شركات الكومبيوتر وصانعو رقائق الكومبيوتر يقيمون في وادي السليكون بما في ذلك شركة غوغل وآبل وفيسبوك وياهو. اسم المنطقة(سليكون) جاء من مادة السليكون المستخدمة في صناعة رقائق الكومبيوتر. المنطقة هي الأغنى في الولايات المتحدة حيث أشارت صحيفة ذي نيويورك تايمز في مايو 2012 الى ان 14% من ارباب المنازل المقيمين في وادي السليكون يستلمون اكثر من 200 ألف دولار سنويا.

(2)      يشير Lanier في كتابه الى ان الانترنيت يؤذي الطبقة الوسطى اقتصاديا، ويعرض مثال على ذلك عن محرك غوغل للترجمة، مع انه يُسمى ترجمة ماكنة لكنه ليس ترجمة ماكنة ابداً، وهي بعيدة عن تحقيق الاهداف. غوغل تقوم ببناء قاعدة بيانات هائلة لترجمات حقيقية صنعها اناس حقيقيون ومن ثم تقارن طلبك بتلك الامثلة. بعملها هذا تحصل غوغل على بلايين الدولارات بينما الناس الذي صنعوا الترجمات لا يحصلون على شيء ابداً. زيادة اللامساواة هي ليس بسبب ان الناس لا حاجة لهم وانما بسبب الوهم بانهم غير موجودين.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/آيلول/2014 - 22/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م