الجعفري والدبلوماسية العراقية

النجاح هو الخيار الأوحد

عبد الرحمن أبو عوف مصطفى

 

يعود بنا الظرف الحالي الى ما سبق وأن حظى به الشعب العراقي من دعم دولي (أمريكي تحديداً) قبل عقد من الزمن، عندما آلت الولايات المتحدة الأمريكية على نفسها في 2003، الإستجابة لتطلعات العراقيين في الخلاص من نظام صدام الدكتاتوري الذي بلغت به البشاعة الى الحد الذي شرعن فيه قطع صيوانات الاُذن وأطراف الألسن ومضى به الاستهتار الى درجة المروق عن القوانين والأعراف الدولية والعبث بأمن المنطقة والعالم..

وكما شهد العراق مسبقا، كذلك هو الحال اليوم، حيال تنظيم داعش الذي لا يتقن سوى مهنة قطع الرقاب وإدارة أسواق الجواري والإماء.. فالادارة الأمريكية التي نأت بنفسها قليلا عن الشأن العراقي تعود بقوة اليوم، بل تبدو أكثر تفهمّاً لحقيقة ما يمر به العراق وأعمق إدراكاً لما يُمكن أن يُنتجه الانكفاء عن المنطقة من تداعيات على الأمن الإقليمي والعالمي..

والحقيقة أن ما يُعنى بهذا التوجه الراهن وما ينبغي أن يعني لنا كذلك، ليس بأقل من كونه بداية مرحلة أولى من استراتيجية شاملة ينبغي الاستثمار بها من قبل الطرفين على جميع الصُعد ذات الاهتمام المشترك، ومما لا جدال فيه هو ان العراق خاصة وعلى الجانب الأمني، والإقتصادي أيضاً، هو أحوج من أي وقت مضى لجهد دولي استراتيجي مُساند يضع حدّا لنزيف الدم والمال العراقي ويكبح جماح التدخلات الاقليمية السلبية في الشأن العراقي في الحد من توريد الإرهاب والإسهام في تحريك عجلة الاقتصاد بما يمكن له النهوض بالقطاعات الأخرى الصناعية والزراعية الى جانب القطاع النفطي لإنتشال العراق من الواقع الاستهلاكي البائس الذي كرّسته دول الجوار ودول آسيوية أخرى بذلت وما زالت تبذل قصارى جهدها لتعطيل القطاعات الانتاجية الصناعية عبر استخدام نفوذها لمنع سن القوانين الفاعلة في هذا الاطار وتكريس العوامل الكفيلة بجعل كلفة الانتاج الوطني أعلى من المستورد، ومن جانب آخر تبني سياسات انهاك القطاع الزراعي عبر التلاعب والعبث بالمصالح المائية رغبة منها في الاحتفاظ بالعراق سوقاً إستهلاكية مفتوحة للسلع البائرة ومكبّا للنفايات والبضائع التي يكاد أن ينتهي مفعولها أو هي بالأصل منتهية المفعول، كجزء من الفاتورة التي ينبغي على العراق دفعها نتيجة التطبيقات الديمقراطية والنظام السياسي في العراق الجديد.

وتبرز في سياق التوجه الدولي الجديد، الأهمية القصوى لما يُمكن أن ينجزه العراق في هذا الصدد لتطوير وإدامة الفعل الخارجي الايجابي والتقليل مما هو سلبي منه، عن طريق ميدان العمل الدبلوماسي وبما ينطوي عليه هذا الميدان من مجالات تتجاوز التمثيل السياسي البروتوكولي والتفاوض والخدمات القنصلية الى ماهو أبعد من ذلك ليشتمل أيضاً على المجالات الاقتصادية والتقنية والثقافية والأمنية، والإجتماعية.

 وكنت قد أشرت في االمقال السابق الى الإخفاقات التي رافقت أداء الدبلوماسية العراقية على مدى عقد من الزمن، فضلاً عما إنتهى اليه الحال مؤخرا من تراجع كبير في مستوى التفاعل الدولي مع الشأن العراقي. وهو أمر متوقع الحدوث مع القصور الواضح في السياسة الخارجية للعراق نتيجة ضعف الديبلوماسية التي تعد الأداة الأساسية لتنفيذ السياسة الموجهة نحو الخارج.. فبالإضافة الى غياب النهج الواضح والاستراتيجية البناءة للديبلوماسية العراقية، لعبت الاختلالات الوظيفية دورا سلبيا أيضاً. ومما هو لم يعد خافيا، وخاصة على عراقيي الخارج، أن المياديين الديبلوماسية العراقية كانت قد أصبحت ملاذا لأبناء المسؤولين وأقاربهم، وأوكارا للبطالة المقنعة، وأبواباً مفتوحة للإنفاق والصرف المقنن.. ودون أدنى شك، كان من الطبيعي أن يؤثر ذلك سلبا على السياسة الخارجية للعراق، وأن يذهب بالأمور بعيداُ عن أولوياتها في تحقيق التعاون الدولي المنشود، بل وعدم انصاف العراق في المحافل الدولية أيضا، كما اتضح ذلك في القرار الأممي 2170 الذي تبناه مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع ضد (داعش) والذي تضمن إدراج أسماء ستة قياديين إسلاميين متطرفين، من الكويت والسعودية ودول أخرى جميعهم من الناشطين على الساحة السورية فقط، في حين لم يتطرق القرار الى أي من قادة الارهاب الداعشي في العراق رغم أن جرائم دواعش البعث الصدّامي في العراق أذهلت شعوب العالم في قسوة الفعل وحفلات الاعدام الجماعية!.. وبما ترك السؤال الجماهيري دون اجابة : هل كانت الدبلوماسية العراقية وممثلو العراق في الأمم المتحدة نيام أم متواطئون أم هُم هناك للسياحة؟.

بالإضافة الى ما سبق، فهناك جانب من جوانب السياسة الخارجية والمتعلّق بدبلوماسية المسار الأول، الخاص برئاسة مجلس الوزراء، في مرحلة ما لم يكن الأداء في هذا المجال فاعلا بما فيه الكفاية، سواءاً في عدم اتخاذ القرار بوضع حدّ لتدنّي الأداء الدبلوماسي أو فيما اتخذت فيه من قرارات تسببت هي الأخرى في خلق فجوة في علاقات العراق الدولية، (مع الجانب الأمريكي خاصة) ويعود ذلك (كما أسلفت في المقال السابق/المالكي، القدرات القيادية والإستهداف المضاد) الى طبيعة الظروف المحيطة بصانع القرار وقيود نظام المحاصصة البغيضة التي كبّلت القرار العراقي.

أما اليوم، و مع اسناد مهام وزارة الخارجية العراقية الى د. ابراهيم الجعفري، بالتزامن مع التوجه الدولي الجديد والاصرار المُعلن من قبل الولايات المتحدة على تشكيل ائتلاف دولي لمواجهة الارهاب الداعشي في العراق والمنطقة، واستعدادها الكبير لإعادة بناء المؤسسة العسكرية للدولة العراقية بطرق مهنية سليمة.. أي: مع هذه المستجدات على الساحة الدولية ووجود رئيس التحالف الوطني (الكتلة السياسية الأكبر) السيد الجعفري على رأس الدبلوماسية العراقية أصبح من الضروري الآن وأكثر من أي وقت مضى بناء استرتيجية دبلوماسية تتضمن نهجاً فعّالاً أكثر ادراكاً لمستوى المخاطر المحتملة وحجم التحديات الممكنة، وينأى (هذا النهج) بالعراق بعيدا عن سياسة المحاور الاقليمية المتضادة، ويسعى الى ضخ دماء جديدة في ميدان العمل الدبلوماسي العراقي الى جانب الإرتقاء في أداء الموظفين في ملحقيات السفارات والقنصليات العراقية ليكونوا أكثر قدرة على التواصل والتفاعل مع المؤسسات داخل الوطن والمعنية بالشأن الذي تختص به الملحقية في الرعاية والتطوير.

ومما لا يمكن إغفاله في هذا الصدد، هو أن الوسائل الثقافية من الأدوات المهمة لتنفيذ السياسة الخارجية والتواصل مع الشعوب، الأمر الذي يستدعي توثيق الصلة بالعراقيين في المهجر، فقد تسببا كل من النظام الصداّمي الدكتاتوري مسبقاً، والإرهاب فيما بعد، الذي يشكل والى حد كبير امتدادا لذلك النظام المباد في هجرة العقول العراقية ورأس المال العراقي وصفوة المبدعين في مختلف العلوم والفنون والأدب، الأمر الذي يستلزم الالتفات الحقيقي لهذا الجانب في السياسة الخارجية والدبلوماسية المراد لها ان تكون في عهد الجعفري والحكومة الجديدة في العراق. فضلاً عن ذلك وكما هو متفق عليه أن في اطار بناء العلاقات التعاونية والدبلوماسية بين الدول تعد (جماعات الضغط) من أهم الأدوات المؤثرة في السياسة الخارجية، الاّ أننا وطوال الفترة المنصرمة، (الاّ ما ندر) لم نلمس أو نسمع عن تبني وزارة الخارجية لبرنامج عمل يصب في هذا الاتجاه.

ان التوجه العالمي الجديد في محاربة الارهاب، والإصرار الأمريكي على النظر الى التحول الديمقراطي كأحد أهم وسائل مكافحة الارهاب والمتجسد فيما تبديه الادارة الأمريكية اليوم من حرص أكيد على حماية ورعاية النظام السياسي الديمقراطي في العراق والذي تأكد استهدافه من القوى الارهابية في المنطقة وعلى رأسها تلك المسماة (داعش) والتي تريد ان تقيم على أنقاض هذا النظام، نظام لصناعة الموت ودولة لإنتاج الخوف لن يكون العالم بمأمن من شرورها فيما لو تباطئ عن اجهاض مخططاتها في المهد.. أي : إزاء هذا الأمر، العراق مطالب هو الآخر بالتعاون المفتوح مع الجهد الدولي والشروع من جانبه في اصلاح شامل عبر خطوات منهجية مدروسة للعديد من الجوانب والقطاعات. ومثلما يرى الكثيرون ونحن منهم بأن المؤسسة العسكرية في العراق بحاجة الى اعادة بناء وتجهيز وتسليح يتطلب الاستعانة بالخبرات الدولية والدول الكبرى المؤهلة في هذا الجانب خاصة عندما تكون اعادة الهيكلة للجيش العراقي مقترنة بالتخلي وبشكل نهائي عن تجزئة الملف الأمني مناطقيا الذي حاول البعض الترويج له والذي يحمل من المخاطر مالا يسعنا اختزاله في سطور، فنحن كما نرى أهمية ما سبق، نرى كذلك، بأن للديبلوماسية العراقية أثر كبير في تعبيد الطريق وتنسيق الجهود والمواقف وتقريب وجهات النظر بين مكونات المجتمع الدولي وهو ما يتطلّب أن تكون وزارة الخارجية العراقية بمستوى الموقف وأن تؤرخ هي الأخرى عبر تكامل الحراك مع الحكومة العراقية وتناسق الخطى مع الجهد الدولي لمرحلة تاريخية مهمة تمثل استراتيجية دولية جديدة تطلق لنفسها العنان ايذانا بالحرب الشاملة على الإرهاب..

ومما تُحتم الضرورة الاشارة له هو أن يكون الحراك العراقي الرسمي وغير الرسمي والدبلوماسي منه خاصة متحررا بالكامل من المخاوف والشكوك في التناغم والتناسق مع الحراك الدولي، (المخاوف والشكوك) التي قد تثيرها بعض الأطراف الاقليمية أو يدفع اليها الغموض الذي يرافق بعض الخطوات الدولية في المراحل الأولى من الاستراتيجية والتي لا تستوجبها الضرورة وحسب بل هي ضرورة في حد ذاتها.. ونحن على ثقة بأن العِبرة التاريخية تقتضي من الساسة المعنيين في بناء الدولة العراقية عدم التسبب في خسارة فرصة تاريخية أخرى يحظى بها العراق، سواءً في التخلّف أو حتى ((الإستباق)).. فالإستباق أيضا لايقل خطورة عن التخلّف، وهي وسيلة أخرى لتفويت الفرصة على العراق، والتاريخ كما يعلم الجميع لا يرحم، وليس مبررا أبدا، ولا شفيعاً بالمطُللق، أمام الأجيال القادمة القول..(( نستميحكم العذر فـ "المرء عدو ما يجهل")).

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 14/آيلول/2014 - 18/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م