في المجتمع المدني

الجوانب الكمية والكيفية والاتجاهية

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

 

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [1]).

مقدمات نطاق البحث في المجتمع المدني:

يدور البحث في مؤسسات المجتمع المدني عادة حول الجهة الكمية تارة، وحول الجهة الكيفية تارة أخرى، كما يدور ثالثة حول الاتجاه[2] لجهة إتجاه العلاقة بين مكونات المجتمع؛ إذ يتوجب الاستضاءة من الآية القرآنية الكريمة التي تشكّل الإطار العريض، والخلفية الفلسفية للبحث كله، لتبيان الجوانب القياسية في نظم المجتمع المدني، وهي الكمية والكيفية والاتجاهية.

الجوانب الكمية في منظمات المجتمع المدني:

من الناحية الكمية نرى أنَّ الشعوب والمجتمعات في أي مجتمع من المجتمعات، إسلامية كانت أم غيرها (كالشعب العراقي أو المصري أو الهندي أو الصيني أو غيرها)، فإن هذه الشعوب والمجتمعات يجب أن تعج بمؤسسات المجتمع المدني، التي نقترح أن تسمى بإحدى التسميتين البديلتين الأخريين، مؤسسات المجتمع الإنساني، أو مؤسسات المجتمع الإيماني، وسيأتي وجه ذلك إن شاء الله.

مجتمع المؤسسات ونسبته للسكان:

هذه المجتمعات سواء أكانت عربية أم غير عربية من المجتمعات الإسلامية، وغيرها، يجب أن تعج بالمؤسسات بمختلف أشكالها وألوانها، بعشرات الألوف، أو مئات الألوف أو أكثر، وحيث تعرف الأشياء بأشباهها فلنقارن بين بلدين، هما: (العراق) نموذجاً، و(أمريكا) كنموذج آخر.

تأسست في العراق بعد سقوط الطاغية الكثير من مؤسسات المجتمع المدني، وقد بلغ مجموع المؤسسات حسب الإحصاء ثلاثة عشر ألف مؤسسة، تأسس أكثرها بعد السقوط، وقبلها أيضاً كانت هناك بعض المؤسسات، لكنها غير مستقلة عن هيمنة الدولة وسلطانها، ومن شرائط مؤسسات المجتمع المدني أن تكون مستقلة عن الدولة، وإلا كانت أداة بيد الطاغوت، ومعول هدم للمجتمع المدني في مجمل الفروض أو معظم الحالات.

وفي هذا الإحصاء تشير الأرقام الرسمية إلى أكثر من ثمانية ألاف منظمة ومؤسسة مجتمع مدني معتمدة، لكن المشكلة في كم المنظمات غير الناشطة ميدانياً، من أصل ثلاثة عشر ألف منظمة قانونية في مختلف القطاعات في هذا العراق الشاسع المترامي الأطراف، وإن مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني هذه، ليست بأكملها فاعلة ونشطة، لكن الكثير منها قد تكون حبراً على ورق، ومجرد شكل وديكور، وتسجيل رسمي لا أكثر، أو هي قليلة الفاعلية والنشاط.

إن عدد نفوس العراق حوالي ۳۰ مليون وأكثر، وبالمقارنة مع أمريكا التي یبلغ عدد سكانها ۳۰۰ مليون وأكثر، فكم توجد فيها من المؤسسات الخيرية؟ مع العلم بأن مؤسسات المجتمع المدني هي أوسع دائرة من المؤسسات الخيرية (وهي التي ترعى الأيتام أو ترعى الفقراء أو المرضى، أو الشؤون الخيرية الأخرى)، فإن هذه كلها تشكل قسماً من مؤسسات المجتمع المدني الى جوار النقابات، التي هي أيضاً من مؤسسات المجتمع المدني، وكذا الأحزاب والمنظمات والاتحادات وهكذا، مع إنها لا تعد مؤسسات خيرية.

إن المؤسسات الخيرية الموجودة في أمريكا وحدها قد بلغت حسب الإحصاء الرسمي، مليون و۲۰۰ ألف مؤسسة، حسب دراسة عن أوضاع ذلك البلد، أعدّت في العام ۲۰١۰، كما أن الأموال المخصصة للأعمال الخيرية تذهب إلى أكثر من مليون و۲۰۰ ألف مؤسسة خيرية مسجلة، وهناك مؤسسات أخرى كثيرة غير مسجلة.

إن من الواجب على الإنسان، أن يعرف نقاط قوة الآخرين، وأن يعرف نقاط ضعفهم، فأمريكا - مثلاً- دولة استعمارية، لا شك في ذلك، ولكن كيف هيمنت على العالم؟ جزء من ذلك عن طريق توفير عناصر القوة في بلادهم، والله سبحانه وتعالى يقول: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)3، سواء التقي أم الشقي، السعيد أم غير السعيد، المؤمن أم الكافر، فالله سبحانه وتعالى يمدّه من الأسباب الظاهرية الدنيوية ما به يتقدم إلى الأمام ويسيطر أو لا يسيطر، على حسب كفاءاته ونشاطه وعمله.

 لنتصور مرة أخرى بلداً واحداً يمتلك من المؤسسات الخيرية مليوناً و۲۰۰ ألف مؤسسة خيرية مسجلة رسمياً، دعك عن غير المسجلة، وحسب هذه المعادلة فإن العراق الذي يبلغ نفوسه ۳۰ مليون نسمة - ما يعادل عشر الشعب الأمريكي - يجب أن يضم في جنباته - على الأقل - ١۲۰ ألف مؤسسة خيرية، إضافة إلى سائر منظمات المجتمع المدني، ونلاحظ أن الفارق في القياس كبير.

وسنُصدم أيضاً عندما ننظر إلى سائر بلاد الإسلام، والشعب المصري مثلاً يزيد على ۸۰ مليون، أو أكثر من ذلك، وإيران أيضاً نفوسها أكثر من ۸۰ مليون، والدول الإسلامية الأخرى، فكم مؤسسة خيرية هنالك في هذه البلدان؟ إن حيوية الأمم نشاطها وازدهارها تقاس بكمية وبحجم وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني فيها.

الحاجات الكمية للمجتمع المدني:

وعوداً على بدء، فإن هذه المجتمعات الإسلامية- مثل العراق ومصر والسودان ودول الخليج وسوريا ولبنان وغيرها من البلاد- يجب أن تضج بالمؤسسات، ويجب أن تكون هناك عشرات الآلوف، بل - وحسب تعداد السكان- مئات الألوف من مؤسسات رعاية الأيتام والمستوصفات، ومن المساجد، والمكتبات والمدارس والحسينيات، والنقابات، والاتحادات، ونوادي الرياضة، ونوادي الشباب، و العشائر والقبائل، أي: مؤسسات المجتمع المدني بمختلف ألوانها وأشكالها.

إن المجتمع السليم هو ذلك الذي تكثر فيه المؤسسات الإنسانية والإيمانية، من مكتبات ومدارس ومعاهد، وجامعات، وهكذا وهلم جراً، في حين أننا نلاحظ الآن في مدننا المقدسة، في كربلاء أو النجف أو مشهد أو غير ذلك من البلاد المقدسة، كم مكتبة توجد فيها؟ وكم معهداً تربوياً يوجد فيها؟ إن الأمور - كما سبق - تعرف بأشباهها، كما تعرف بأضدادها، ولعلنا سنعود إلى هذه النقطة (الناحية الكمية في المجتمع المدني) في بحث قادم إن شاء الله.

الجوانب النوعية في بنية المجتمع المدني:

إن مؤسسات المجتمع المدني يجب أن تشرع من اللبنة الأساسية الأولى في المجتمع، التي هي العائلة، غير أن (التعاريف) التي جرى ذكرها في البحث الماضي لمؤسسات المجتمع المدني تخرج العائلة عن منظومتها وتقول إنَّ مؤسسات المجتمع المدني هي المؤسسات الوسيطة التي تقع تحت الدولة وفوق العائلة.

(العائلة) المكوّن الأساس للمجتمع المدني:

إن الحق هو: إن إخراج العائلة - كإخراج القبيلة والعشيرة - من دائرة مؤسسات المجتمع المدني هو أمر خاطئ، كونها في الواقع هي المحطة الأولى التي يتربى الفرد فيها، والتي يأخذ فيها الفرد – كطفل – ويعطي كأب أو أم، أو يأخذ ويعطي - كأخ وأخت - والعائلة هي المعهد التربوي الأول، فينبغي أن تولى العائلة عناية كبيرة في إطار مؤسسات المجتمع المدني.

ولذا نجد أن بعض علماء الاجتماع - أخيراً- التفت إلى هذه النقطة، وذكروا بأنه لا يصح أن تهمل العائلة أو تخرج من مكونات المجتمع المدني؛ وذلك لأنها - في الواقع- تكوّن البنية التحتية لكافة المؤسسات الأخرى، التي تبتنى عليها.

وفي الواقع أن كل المقومات موجودة في العائلة، فهي جماعة متكاتفة، من أب وأم وأخت وابن، وعم وخال وابن عم وما شابههم، وتتوافر في العائلة مقومات التعاون والتكامل، وبناء المجتمع كله، وعليه لا مبرر أبداً لإخراجها من المجتمع المدني.

وتترتب على هذا البحث ثمرة هامة، لأن بعض الدول قد أسست وزارة باسم وزارة مؤسسات المجتمع المدني، أو ما يقرب من هذا الاسم، فعندما يقول قائلهم: إنَّ العائلة خارج دائرة مؤسسات المجتمع الدولي فستهمل العائلة، أو سوف لا تحظى بالعناية والرعاية الكافية، والحال إن العائلة إذا تحطمت وضعفت وتفككت فذلك يعني أن كل المجتمع قد تحطم أو ضعف أو تفكك، فإن المعهد التربوي الأول هو العائلة، وهذا واضح، وقد ظهر من ذلك كله إن قولنا: إن العائلة داخلة في مؤسسات المجتمع المدني أو الإيماني أو الإنساني ليست مسألة اصطلاحية و نظرية، وإنما هي مسألة عملية ذات آثار خارجية كبرى.

التنظيمات الاجتماعية الإرثية:

كما نلاحظ على تعريف بعض علماء الاجتماع للمجتمع المدني بـ(أنه مجمل التنظيمات الاجتماعية التطوعية غير الإرثية) حيث نرى عدم صحة هذين القيدين أيضاً؛ إذ ليس من الضروري أن تكون هذه التنظيمات تطوعية وغير إرثية.

وسنبحث في قيد(التطوعية) لاحقاً بإذن الله.

أما الأن فلنفصل في قيد(غير إرثية) فنقول: إنهم بقيد (غير إرثية) يخرجون - كما سبق - القبيلة، لأنها تتوارث، فإن نظام التوارث متبع في القبيلة كونها عائلة كبيرة، فإنه بمرور الزمن تتوسع العائلة شيئاً فشيئاً، ويصير لها أفخاذ وأقسام، ويصيرون بمئات الألوف، وهؤلاء على سواعدهم يبنیٰ البلد لو ساروا - كما هو الغالب - سيرة صحيحة، بل هنالك أخلاق حميدة جداً في العشائر، وهنالك – أيضاً - فيها أخطاء، كما في كل تجمع، أو في كل جماعة، لكن الكلام هو أن هذه العشائر لها قيمة كبيرة جداً، وهي تعد لبنة أساسية في صرح المجتمع المدني.

ولذا يقول الله سبحانه وتعالى (وَجَعَلنٰكم شُعُوبًا وقَبَآئِلَ لِتَعارَفُوآ) ولذا نجد أنه إذا ثار العلم الحديث بأكمله ضد القبيلة، وأراد نسفها فإنه لا يستطيع؛ وذلك لأنها هي بنية طبيعية وإنسانية وإلهية، فهي مثل العائلة التي يمكن تضعيفها، ولكن لا يمكن تحطيمها بالمرة.

(وَجَعَلنٰكم شُعُوبًا وقَبَآئِلَ لِتَعارَفُوآ) وكما لا يمكن إزالة الشعوب، لا يمكن القضاء على القبائل أيضاً، وكما يمكن أن يضعف شعب ويقوى شعب كذلك القبائل، إن الشعوب والقبائل حقائق تكوينية لا يمكن إلغاؤها، وهي تشكل إحدى أهم مظاهر(التعددية) وأنماطها.

والغريب أن نجد هذه المصطلحات والتفسيرات تقوم - بشكل مقصود أو غير مقصود - بالسعي لتهميش العشائر، بل قد يكون هناك تعمد[4] في إلغاء دور العشائر في بناء البلاد، فيجري تعريف مؤسسات المجتمع المدني بحيث تخرج منها العشائر والقبائل والعوائل وما أشبه ذلك، وهذا خطأ فادح، وعند الكثير منهم مقصود، حيث يحددون المجتمع المدني بإطار ضيق هو(مجمل التنظيمات الاجتماعية التطوعية غير الإرثية) كما أن مما يؤخذ على علماء الاجتماع الذين يشترطون أن تكون المنظمات غير إرثية (أي أن العضو فيها لا يتوارث عبر العائلة أو العشيرة أو الطائفة أو المذهب) إنهم بذلك يلغون المذاهب والطوائف بأكملها، والعشائر والقبائل جميعها، وهذا يعني إنهم تسلحوا بدعاوى (التحضر) و(الحضارية) لإلغاء (التعددية) الطبيعية، ذات الأثر الكبير في بناء الأمم وتماسك المجتمعات على مر التاريخ، وذلك بمجرد كون هذا الانتماء(غير إرادي) لكنا نقول:

أولاً: هل انَّ كل انتماء غير إرادي هو غير حسن وغير صحيح وغير مفيد؟

ثانياً: إن هذه الانتماءات هي(إرادية) على مستوى الواقع الخارجي، فإن لكل منتمٍ لدين أو مذهب أن يستمر أو ينتقل إلى مذهب آخر، كما أن أبناء العشائر لهم أن يفكّوا ارتباطهم بالعشيرة والقبيلة، وحينئذٍ تتحلل القبيلة من التزاماتها تجاههم أيضاً - كما هو جار في الكثير من العشائر-.

 والمحصلة أن الانتماء النسبي إلى العائلة والعشيرة هو انتماء غير إرادي، لكنه من حيث (العقد الاجتماعي الخاص) إرادي، بل إنه شيء محبب للنفوس، إضافة إلى أن العوائل والعشائر إذا كانت متماسكة فإنها تتقدم أكثر، وتتطور أكثر، وتسهم بشكل أفضل في بناء البلاد.

موقف الشريعة من التنظيمات الإرثية:

إن موقف الشرع تجاه التنظيمات الإرثية موقف إيجابي جداً، فقد ركز الشارع على التماسك الأسري بشكل كبير جداً، كما نجد تركيزاً كبيراً على مؤسسات المجتمع المدني أو الإيماني بشكل عام، والعائلة بشكل خاص عبر آليات مثل صلة الرحم، فكلما ازداد الناس صلة للأرحام وتأسست مؤسسات لتقوية العوائل، وتقوية الوشائج والروابط كان المجتمع صالحاً مستقراً مزدهراً، وهذه وقفة مهمة جداً، وأنا أدعو جميع المهتمين، سواء المفكرين أم علماء الدين، أم أساتذة الجامعة للالتفات والتركيز على هذه النقطة الجوهرية المفصلية في مبحث مؤسسات المجتمع المدني.

وحتى نتعرف أكثر على المنطلق الإسلامي والمنطلق الغربي، ولماذا دعت الدراسة إلى تغيير المصطلح، من مؤسسات المجتمع المدني إلى المجتمع الإيماني أو الإنساني، علينا أن نتذكر مرة أخرى إن مفردة (المدني) لا تتضمن العشيرة ولا القبيلة ولا العائلة، وأن نلاحظ إنها تحمل الكثير من الظلال السلبية، كونها تجعل(الشرعية) و(المحورية) للمدينة لا غير، وتحطم غيرها: الأرياف، العشائر وغير ذلك، بعكس مصطلح مؤسسات المجتمع الإيماني، ومؤسسات المجتمع الإنساني.

وعند ملاحظة الروايات التالية يتضح لنا المنطلق الإسلامي أكثر فأكثر، ففي رواية ينقلها السيد الوالد (رحمه الله تعالى) في كتاب (الفضيلة الإسلامية)، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أوصي الشاهد من أمتي والغائب، ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة أن يصل الرحم)، وما أعظمها من وصية؟! وما أقواها من دعوة؟! للشاهد والغائب.. وإلى يوم القيامة! إنها دعوة الرسول الأكرم إلى التماسك الأسري، عبر صلة الرحم، سواء أكانت الرحم قريبة، كأب، وابن، وأخ، وعم، أم بعيدة، كأبناء العمومة والخؤولة، بوسائط وهكذا.

إن وصية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) هذه ونظائرها من الوصايا، تسدّ الطريق على من يحاول وباسم (مؤسسات المجتمع المدني) أن يحطّم مهمة المجتمع، وأن يقضي على أهم مكونين من مكوناته، وهما: (العوائل) و(العشائر)؛ لأن الوصية بأن تصل الرحم وإن كانت على مسيرة سنة لا تعني إعطاء الشرعية للجماعات(الإرثية) و(غير الإرثية)- حسب مصطلحهم - فقط، بل إنها دعوة صريحة لتقوية وشائج القربى وتكريس التشابك الأسري.

وتتجلى أهمية هذه الوصية بصلة الرحم وإن كانت على مسيرة سنة، في هذه الأزمنة، أكثر فأكثر، لأن العالم الآن يضج بالملايين من المهجّرين والمهاجرين، فإن كثيراً من شعوبنا هم من الناس المهجّرين أو المهاجرين، من مختلف الدول الإسلامية، من شمال أفريقيا إلى الباكستان والهند، فالكثير من المسلمين قد هاجروا إلى الغرب أو إلى بلاد أخرى، من الشرق إلى الشرق، ومن الغرب إلى الغرب، عندنا الملايين من المسلمين مهاجرون أو مهجّرون، ربما عشرات الملايين، والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يقول: (صل رحمك ولو كان على مسيرة سنة، فإن ذلك من كمال الدين). وهذا يعني ضرورة تواصل الأرحام وان كانت الفاصلة بينهم مسيرة سنة - مشياً أو ركوباً – فلابد أن نمشي إليهم سنة حتیٰ نصلهم، ونزورهم، و نتفقد أحوالهم، وإذا سرنا على هذا المنهج، في العراق و مصر و باكستان و الخليج و إيران و أي بلد آخر، سنرى كيف أن المجتمع سينهض من جديد، وسينمو ويزدهر ويستقر.

 لنتصور لو ان كافة الذين يعيشون في الأرجنتين أو البرازيل أو أمريكا أو اليابان أو الصين أو أي بلد فكروا في أهاليهم الموجودين مثلاً في لبنان، أو العراق أو أفغانستان أو غير ذلك، والعكس بالعكس، أي عالم رائع سيكون هذا العالم؟ وما الذي سينجم عن ذلك؟ إن الذي ينجم عن ذلك هو نوع فريد من التماسك والتكامل في المجتمع من جميع الجهات؛ إذ سيفكر كل فرد في الدفاع عن حقوقهم وعن حرياتهم، ويفكر في أيتامهم وفقرائهم ومساكينهم، ويفكر في سائر حاجاتهم! نعم، هذا هو منهج الإسلام، وهذه هي سلسلة من أهم مؤسسات المجتمع الإيماني أو مؤسسات المجتمع الإنساني، مؤسسة العائلة ومؤسسة العشيرة، والتي قوامها بصلة الرحم بمفهومها الواسع.

وفي رواية أخرى، قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): (أي الناس أفضل؟، فقال أتقاهم لله، وأوصلهم للرحم، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر). والملاحظ إنه (صلى الله عليه وآله) ذكر بعد تقوى الله سبحانه وتعالى مباشرة الرحم، وقال:(صلى الله عليه وآله)، (أن القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة، فيصلون أرحامهم فتنمى أموالهم وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا أبراراً بررة). وقال في رواية أخرى (أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عن من ظلمك).

والبحث في هذا الحقل طويل، وسنتوقف لاحقاً بإذن الله تعالى عند الآية الشريفة لكي نتدبر فيها تدبراً آخر، في اتجاهات العلاقات الاجتماعية في المجتمع المدني أو الإيماني، فهناك ست عشرة صورة أو أكثر من ذلك لكيفية هذا الترابط بين مكونات المجتمع المدني، وسنبيِّن أن نوعية هذه العلاقة هي نوعية الاتجاه الشبكي وليس العمودي.

المسؤوليات الاتجاهية في المجتمع المدني:

إن اتجاهات المسؤولية واتجاهات العلاقة بين أفراد وشرائح المجتمع المختلفة يمكن أن نقسمها إلى مجاميع أربع، وكل مجموعة من هذه المجموعات، تضم أربعة أضلاع أو أربعة أسهم أو أربع صور، فالصور المبدئية هي ست عشرة صورة، يمكن أن تتجسد فيها اتجاهات العلاقة والمسؤولية في إطار المجتمع، فهي بذلك أربع مجاميع وست عشرة صورة.

إن صورة علاقات المجتمع الإسلامي أو الإنساني يمكن أن تكون عمودية، أو أن تكون أفقية، أو هي مزيج من ذلك، حيث يمكن أن نع عنها بالعلاقات الشبكية، أي أنها ذات اتجاهات متقابلة من هذا الاتجاه ومن ذلك الاتجاه، وهي كالتالي:

المجموعة الأولى: هي تلك التي تبتدئ من الفرد.

والمجموعة الثانية: هي تلك المجموعة التي تبتدئ من الجماعة.

والمجموعة الثالثة: هي تلك التي تبتدئ من المجموع.

والمجموعة الرابعة: هي تلك التي تبتدئ من القمة أي الدولة.

وسينصرف البحث في الفصل القادم من الكتاب إلى اتجاهات المسؤولية في المجموعة الأولى على صورها المختلفة الأربعة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.

* فصل من كتاب "معالم المجتمع المدني" في الفكر الإسلامي

والكتاب سلسلة محاضرات ألقيت في الحوزة العلمية الزينبية

http://m-alshirazi.com

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

........................................

[1] سورة التوبة، الآية 71

[2] وسيأتي في المباحث اللاحقة البحث في الجانب الثالث وهو (الجانب الجهوي)، بإذن الله.

[3] سورة الإسراء، الآیة ۲۰.

 [4] يدل عليه أن هذا هو منهج الغرب عموماً.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 13/آيلول/2014 - 17/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م