شبكة النبأ: ثمة نقيضان لا يلتقيان،
أثبتت التجربة أنهما متناقضان في كل شيء، بل أن أحدهما عدو للآخر، هما
الدكتاتورية و التعددية، فعندما يكون هناك نظام سلطوي قمعي يهيمن على
رقاب الناس، ويكمم أفواهم، ويقمع حرية الرأي وسواها، ويرفض الآراء
الاخرى، ويختصر جميع المسارات الفكرية والسياسية في مسار فكري سياسي
واحد، عند ذاك من المؤكد أن التعددية غير حاضرة في هذا النظام السياسي،
والدليل أن كل شيء مختصر بفكر القائد الأوحد، وبقراراته التي لا تخضع
لمجلس نواب، إنما غالبا ما تنطلق من رؤية فردية عقيمة، هي رؤية الحاكم
الذي لا يمكن أن يسمح للتعددية في الرأي أو الفكر أو صناعة القرار.
لذلك من أهم مزايا التعددية السياسية، أنها تُشرك جميع المؤسسات
الدستورية في صناعة القرار، أيا كان نوعه أو اتجاهه، داخليا كان او
خارجيا، اقتصاديا او سياسيا، بمعنى أن التعددية تتيح المشاركة الواسعة
للاحزاب والشخصيات الممثلة لرأي الجماهير، في صناعة القرار، وفي ادارة
مصالح الشعب، وبهذا فإن من أهم مزايا التعددية السياسية أنها تمنع
الدكتاتورية وترفض الفردية، وتضع مسؤولية ادارة الدولة على الجميع.
لذلك اذا كان هناك نظام دكتاتوري قائم في دولة ما، فإن السبب الاساس
يعود الى ضعف او فقدان ثقافة التعددية، ويصح العكس بطبيعة الحال، لذللك
نلاحظ أن جميع الانظمة التي تسمح بالتعددية الحقيقية وليست الصورية، هي
انظمة ديمقراطية ناجحة، علما أن هناك أنظمة فردية، يحكمها ويديرها حاكم
أوحد، يحاول بكل ما يستطيع أن يصنع تعددية شكلية تدعم نظامه، لكنها
سرعان ما تنكشف ويبان الوجه الحقيقي للدكتاتورية التي تنتعش بغياب
التعددية.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي
(رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (من اسباب ضعف المسلمين)، حول
هذا الموضوع: (من أسباب استفحال الدكتاتورية، فقدان ثقافة التعددية،
وشيوع ظاهرة الاستبداد والأنانية، وفكرة الاستئثار والانحصارية، مع أن
من ملك استأثر، كما قال تعالى: إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى).
إرادة الانسان أقوى
إن الصراع بين الحاكم والمحكوم، ليس وليد الراهن، بل هو قدم قدم
نشوء البشرية، فنزعة التسلط على الآخر موجودة في تركيبة النفس البشرية،
نظرا للمزايا الكثيرة التي توفرها السلطة لصاحبها، لذلك قامت الصراعات
الأزلية بين من يمسك بدفة السلطة وبين المحكوم، ومع مرور عمر البشرية،
بدأت تتعقل شيئا فشيئا، وبدأت الامم والشعوب والدول، تدرك أن السلطة لا
ينبغي أن تكون ذات منحى فردي، أو تمضي باتجاه واحد، بل لابد من تعدد
المسؤوليات والمهام، وتوزعها دستوريا على أكثر عدد ممكن، حتى تأخذ
السلطة طابع التعددية، لأن الفرد غالبا ما ينحو الى الظلم اذا كان
يتحكم بالسلطة كفرد وكقائد أوحد.
لذا لابد من جعل المسؤوليات مشتركة، والنظام السياسي تعددي، حتى
يتحمل الجميع النتائج الجيدة والفاشلة لصنع القرار، علما أن التعددية،
في الغالب أكثر نجاحا من المنهج الفردي الذي لا يأخذ بآراء الآخرين ولا
يشاورهم، لذلك طالما أن الله خلق الانسان حرا، فلا يصح مصادرة هذه
الحرية، بل يمكن تبويبها وتوجيهها وفق ضوابط تشريعية معروفة، تضعها في
الطريق الصحيح، لذا في الغالب لا يرضخ الانسان لمن يريد أن يصادر
حريته.
يقول الامام الشيرازي في كتابه نفسه، حول هذا الجانب: (إن من يعلم
بأن الله خلق الإنسان حراً، ومنحه حرياته الأساسية، وجعله حاكماً على
نفسه وماله، لا يرضخ للعبودية والظلم، ولا يعترف بالطغاة والظالمين).
لذلك لابد من مقارعة النظام الاحادي الذي يهدف الى سلب حرية الانسان
بكل اشكالها، خاصة أننا مطالبون بنشر ثقافة التعددية واختلاف الاراء،
واحترامها ورعايتها، والقبول بهذا المنهج كونه يضمن لنا نظاما سياسيا
متوازنا، ونظاما حياتيا ينسجم فيه الجميع.
ولا شك أن غياب التعددية تؤدي الى غياب مزاياها، ولعل من اهم اسباب
ضعف المسلمين ضعف او غياب هذا المنهج، الذي يؤدي بالنتيجة الى ازدهار
الدكتاتورية السياسية والاجتماعية وغيرها، بمعنى يؤدي غياب النظام
السياسي التعددي الى انتشار المنهج الدكتاتوري في مجالات الحياة كافة،
وهو سبب اساس في ضعف المسلمين سابقا وراهنا ولاحقا ايضا، اذا بقي الحال
كما هو عليه. لذلك يؤكد الامام الشيرازي على ان ضعف أو غياب منهج
التعددية هو الذي يقف: (وراء حالة ضعف المسلمين التي نشاهدها ونلمس
آثارها حتى اليوم، كذلك ان الضعف السابق والوسط واللاحق يسبب ضعف
المستقبل أيضاً).
التعددية والقدرة النزيهة
القدرة النزيهة يمكن أن تحصل عليها الدول، كنتيجة حتمية للنظام
التعددي، وهذه ايضا من اهم مزايا التعدد في الآراء و وجهات النظر
ومعالجة الامور بأكثر من رؤية، لذلك هناك فوائد كبيرة للاستشارة
والتشاور بين المسؤولين، ومؤسسات الدولة، والجهات والشخصيات التي
يمنحها الدستور، حق صناعة القرار، أو ادارة شؤون الدولة والمجتمع في
المجالات كافة، وهذه ايضا من نتائج المنهج التعددي، وحرية الانتخاب،
والالتزام بضوابط وبنود الدستور التي تحكم العمل السياسي، وتوجه
مساراته كافة.
لذلك لابد من العمل على تحصيل القدرة النزيهة كناتج للتعددية، وهذا
شرط اساس لنجاح الامة كما يرى ذلك الامام الشيرازي في قوله بكتابه
القيّم الموسوم بـ (اذا قام الاسلام في العراق): (ينبغي على القائمين
بالنهضة الإسلامية أن يحصلوا على القدرة النزيهة من النوع الاستشاري
القائم على الحرية والانتخاب الحر والتعددية الحزبية).
ومن مزايا التعددية أنها تمنح صناع القرار قدرة على الرؤية السليمة،
ومنحهم ايضا قدرة على التعاون والانسجام، وهي مزايا لا يمكن أن نجدها
في النظام السياسي الذي لا يقوم على المنهج التعددي في ادارته للدولة،
خاصة ان هذا النوع من الانظمة غالبا ما يعتمد على قدراته هو، بعيدا عن
قدرات الشعب، لذلك اذا اراد النظام السياسي النجاح والديمومة، عليه أن
يستمد قدرته من شعبه، وخلاف ذلك لا يمكن أن يدوم مثل هذا النظام، كونه
ينزع الى التفرد والدكتاتورية، ويرفض التعددية، فيصبح هو في واد والشعب
في وادٍ آخر.
من هنا يؤكد الامام الشيرازي في هذا المجال، بالكتاب نفسه على: (ان
الحكومة الإسلامية لابد أن تستند إلى القدرة الواقعية المنبثقة من
الشعب، وهذه القدرة تعتمد بشكل أساسي على وجود الأحزاب والمنظمات
والمؤسسات الدستورية والعشائر التي يحركها نظام التعددية). بمعنى أن
التعددية تعطي مزايا كثيرة للنظام السياسي، منها منحه القدرة النزيهة
التي يستمدها من قدرات الشعب الواقعية. |